الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } * { لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }

استئناف للتصريح بوعد المؤمنين المعرَّض به في قولهإلاَّ كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك } يونس 61 الآية، وبتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما يلاقيه من الكفار من أذى وتهديد، إذ أعلن الله للنبي والمؤمنين بالأمن من مخافة أعدائهم، ومن الحزن من جراء ذلك، ولمح لهم بعاقبة النصر، ووعدهم البشرى في الآخرة وعداً لا يقبل التغيير ولا التخلف تطميناً لنفوسهم، كما أشعر به قوله عقبه { لا تَبديل لكلمات الله }. وافتتاح الكلام بأداة التنبيه إيماء إلى أهمية شأنه، كما تقدم في قولهألا إنهم هم المفسدون } في سورة البقرة 12، ولذلك أكدت الجملة بـ { إنَّ } بعد أداة التنبيه. وفي التعبير بـ { أولياء الله } دون أن يؤتى بضمير الخطاب كما هو مقتضى وقوعه عقب قولهولا تعملون من عمل } يونس 61 يؤذن بأن المخاطبين قد حق لهم أنهم من أولياء الله مع إفادة حكم عام شملهم ويشمل من يأتي على طريقتهم. وجملة { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } خبر { إن }. والخوف توقع حصول المكروه للمتوقِّع، فيتعدى بنفسه إلى الشيء المتوقَّع حصوله. فيقال خاف الشيْء، قال تعالىفلا تخافوهم وخَافون } آل عمران 175. وإذا كان توقع حصول المكروه لغير المتوقع يقال للمتوقَّع خاف عليه، كقوله تعالىإني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } الشعراء 135. وقد اقتضى نظم الكلام نفي جنس الخوف لأن لا إذا دخلت على النكرة دلت على نفي الجنس، وأنها إذا بني الاسم بعدها على الفتح كان نفي الجنس نصاً وإذا لم يُبنَ الاسم على الفتح كان نفي الجنس ظاهراً مع احتمال أن يراد نفي واحد من ذلك الجنس إذا كان المقام صالحاً لهذا الاحتمال، وذلك في الأجناس التي لها أفراد من الذوات مثل رجل، فأما أجناس المعاني فلا يتطرق إليها ذلك الاحتمال فيستوي فيها رفع اسم لا وبناؤه على الفتح، كما في قول إحدى نساء حديثِ أم زرع «زوجي كلَيْلِ تهامة لا حَرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سآمة» فقد رويت هذه الأسماء بالرفع وبالبناء على الفتح. فمعنى { لا خوف عليهم } أنهم بحيث لا يخاف عليهم خائف، أي هم بمأمنٍ من أن يُصيبهم مكروه يُخاف من إصابة مِثلِه، فهم وإن كانوا قد يهجس في نفوسهم الخوف من الأعداء هجساً من جبلة تأثر النفوس عند مشاهدة بوادر المخافة، فغيرهم ممن يَعلم حالهم لا يَخَاف عليهم لأنه ينظر إلى الأحوال بنظر اليقين سَليماً من التأثر بالمظاهر، فحالهم حال من لا ينبغي أن يخاف، ولذلك لا يَخاف عليهم أولياؤهم لأنهم يأمنون عليهم من عاقبة ما يتوجَّسون منه خيفة، فالخوف الذي هو مصدر في الآية يقدر مضافاً إلى فاعله وهو غيرهم لا محالة، أي لا خوف يخافه خائف عليهم، وهم أنفسهم إذا اعتراهم الخوف لا يلبث أن ينقشع عنهم وتحل السكينة محله، كما قال تعالى

السابقالتالي
2 3 4