الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }

معطوفة على جملةوما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة } يونس 60 عطفَ غرض على غرض، لأن فصل الغرض الأول بالتذييل دليل على أن الكلام قد نقل إلى غرض آخر، وذلك الوعدُ بالثواب للرسول على ما هو قائم به من تبليغ أمر الله وتدبير شؤون المسلمين وتأييد دين الإسلام، وبالثواب للمسلمين على اتباعهم الرسول فيما دعاهم إليه. وجاء هذا الوعد بطريقة التعريض بحصول رضى الله تعالى عنهم في قوله { إلا كنا عليكم شهوداً } لأنهم يعلمون أن عملهم وعمل النبي ما كان إلا في مرضاة الله، فهو كقوله تعالى { الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين }. ويتضمن ذلك تنويهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم في جليل أعماله وتسلية على ما يُلاقيه من المشركين من تكذيب وأذى، لأن اطلاع الله على ذلك وعلمه بأنه في مرضاته كاف في التسلية، كقولهواصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } الطور 48، ولذلك توجه الخطاب ابتداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم توجه إليه وإلى من معه من المسلمين. و { ما } الأولى و { ما } الثانية نافيتان. والشأن العمل المهم والحال المهم. وفي للظرفية المجازية التي بمعنى شدة التلبس. وضمير منه إما عائد إلى شأن، أي وما تتلو من الشَّأن قرآناً فتكون مِن مبينة لـما الموصولة أو تكون بمعنى لام التعليل، أي تتلو من أجل الشأن قرآناً. وعَطْف { وما تتلو } من عطف الخاص على العام للاهتمام به، فإن التلاوة أهم شؤون الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ. وإما عائد إلى { قرآن } ، أي وما تتلو من القرآن قرآناً، فتكون { منه } للتبعيض، والضمير عائد إلى مؤخر لتحصيل التشويق إليه حتى يتمكن في نفس السامع. وواو تتلو لام الكلمة، والفعل محتمل لضمير مفرد لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم. فيكون الكلام قد ابتدىء بشؤون النبي صلى الله عليه وسلم التي منها ما هو من خواصّه كقيام الليل، وثُنِّي بما هو من شؤونه بالنسبة إلى الناس وهو تلاوة القرآن على الناس، وثُلِّث بما هو من شؤون الأمة في قوله { ولا تعمَلون من عمل } فإنه وإن كان الخطاب فيه شاملاً للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تقديم ذكر شأن في أول الآية يخصص عموم الخطاب في قوله { تَعملون } فلا يبقى مراداً منه إلا ما يعمله بقية المسلمين. ووقع النفي مرتين بحرف ما ومرة أخرى بحرف لا لأن حرف ما أصله أن يخلص المضارع للحال، فقصد أولاً استحضار الحال العظيم من شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن قراءته القرآن، ولما نفي عمل الأمة جيء بالحرف الذي الأصل فيه تخليصه المضارع للاستقبال للتثنية من أول الكلام على استمرار ذلك في الأزمنة كلها.

السابقالتالي
2 3