الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ }

استئناف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للمشركين. وافتتاحه بـ { قل } لقصد توجه الأسماع إليه. ومناسبة وقوعه عقب ما تقدم أن الكلام المتقدم حكى تكذيبهم بالقرآن وادعاءهم أنه مفترى وأنه ليس بحق، ثم إبطال أن يكون القرآن مفترى على الله لأنه اشتمل على تفصيل الشريعة وتصديق الكتب السالفة، ولأنه أعجز مكذبيه عن معارضته. فلما استوفى ذلك بأوضح حجة، وبانت لِقاصد الاهتداء المَحجة، لا جرم دالت النوبة إلى إظهار خطل عقولهم واختلال تكذيبهم، فإنه بعد أن كان تكذيباً بما لم يحيطوا بعلمه فقد ارتبكوا في دينهم بما يلزمهم منه مماثلة الحالة التي أنكروها، فإنهم قد وضعوا ديناً فجعلوا بعض أرزاقهم حلالاً لهم وبعضها حراماً عليهم فإن كان ذلك حقاً بزعمهم فمن الذي أبلغهم تلك الشرائع عن الله ولماذا تقبلوها عمن شرعها لهم ولم يكذبوه وهم لا يستطيعون أن يلتزموا ذلك، وإن كان ذلك من تلقاء أنفسهم فقد افتَروا على الله فلزمهم ما ألصقوه بالنبي صلى الله عليه وسلم فعلق بهم وبرأ الله منه رسوله، فهذا الاستدلال من الطريق المسمى بالقلب في علم الجدل. ثم إن اختيار الاستدلال عليهم بشيء من تشريعهم في خصوص أرزاقهم يزيد هذا الاستدلال مناسبة بآخر الكلام الذي قبله ليظهر ما فيه من حسن التخلص إليه وذلك أن آخر الكلام المتقدم جملةهو خير مما يجمعون } يونس 58، أي من أموالهم. وتلك الأموال هي التي رزقهم الله إياها فجعلوا منها حلالاً ومنها حراماً وكَفروا نعمة الله إذ حرموا على أنفسهم من طيبات ما أعطاهم ربهم، وحسبهم بذلك شناعة بهم ملصقة، وأبواباً من الخير في وجوههم مغلقة. والاستفهام في { أرأيتم } و { ءَالله أذن لكم أم على الله تفترون } تقريري باعتبار إلزامهم بأحد الأمرين إما أن يكون الله أذن لهم، أو أن يكونوا مفترين على الله، وقد شيب التقرير في ذلك بالإنكار على الوجهين. والرؤية علمية، و { ما أنزل الله لكم من رزق } هو المفعول الأول لـ رأيتم، وجملة { فجعلتم منه } الخ معطوفة على صلة الموصول بفاء التفريع، أي الذي أنزل الله لكم فجعلتم منه. والاستفهام في { آلله أذن لكم أم على الله تفترون } مفعول ثان لـ رأيتم، ورابط الجملة بالمفعول محذوف، تقديره أذنكم بذلك، دل عليه قوله { فجعلتم منه حراماً وحلالاً }. و { قل } الثاني تأكيد لـ { قل } الأول معترض بين جملة الاستفهام الأولى وجملة الاستفهام الثانية لزيادة إشراف الأسماع عليه. وهي معادلة بهمزة الاستفهام لأنها بين الجملتين المعمولتين لفعل { أرأيتم }. وفعل الرؤية معلق عن العمل في المفعول الثاني لأن الأصح جواز التعليق عن المفعول الثاني. وزعم الرضي أن الرؤية بصرية. وقد بسطت القول في ذلك عند قوله

السابقالتالي
2