الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }

يتفرع على كون القرآن هدى ورحمة للمؤمنين تنبيههم إلى أن ذلك فضل من الله عليهم ورحمة بهم يحق لهم أن يفرحوا بهما، وأن يقدروا قدر نعمتهما، وأن يعلموا أنها نعمة تفوق نعمة المال التي حُرم منها أكثر المؤمنين ومُنحها أكثر المشركين، فكانت الجملة حقيقة بأن تفتتح بفاء التفريع. وجيء بالأمر بالقول معترضاً بين الجملة المفرعة والجملة المفرع عليها تنويهاً بالجملة المفرعة، بحيث يؤمر الرسول أمراً خاصاً بأن يقولها وإن كان جميع ما ينزل عليه من القرآن مأموراً بأن يقوله. وتقدير نظم الكلام قل لهم فليفرحوا بفضل الله وبرحمته بِذلك ليفرحوا. فالفاء في قوله { فليفرحوا } فاء التفريع، و { بفضل الله وبرحمته } مجرور متعلق بفعل { فليفرحوا } قُدم على متعلَّقه للاهتمام به للمسلمين ولإفادة القصر، أي بفضل الله وبرحمته دون ما سواه مما دل عليه قوله { هو خير مما يجمعون } ، فهو قصر قلب تعريضي بالرد على المشركين الذين ابتهجوا بعَرض المال فقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً. والإشارة في قوله { فبذلك } للمذكور، وهو مجموع الفضل والرحمة، واختير للتعبير عنه اسم الإشارة لما فيه من الدلالة على التنويه والتعظيم مع زيادة التمييز والاختصار. ولما قصد توكيد الجملة كلها بما فيها من صيغة القصر قرن اسم الإشارة بالفاء تأكيداً لفاء التفريع التي في { فليفرحوا } لأنه لما قدم على متعلَّقه قرن بالفاء لإظهار التفريع في ابتداء الجملة، وقد حذف فعل ليفرحوا فصار مفيداً مفاد جملتين متماثلتين مع إيجاز بديع. وتقدير معنى الكلام قل فليفرحوا بفضل الله وبرحمته لا سواهما فليفرحوا بذلك لا سواه. والفرح شدة السرور. ولك أن تجعل الكلام استئنافاً ناشئاً مما تقدم من النعمة على المؤمنين بالقرآن. ولما قدم المجرور وهو { بفضل الله وبرحمته } حصل بتقديمه معنى الشرط فقرنت الجملة بعده بالفاء التي تربط الجواب لقصد إفادة معنى الشرط. وهذا كثير في الاستعمال كقوله تعالىوفي ذلك فليتنافس المتنافسون } المطففين 26، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ففيهما فجاهد " ، وقوله " كما تكونوا يوَلَّ عليكم " بجزم تكونوا وجزم يول. فالفاء في قوله { فبذلك } رابطة للجواب، والفاء في قوله { فليفرحوا } مؤكدة للربط. ولم يختلف المفسرون في أن القرآن مراد من فضل الله ورحمته. وقد روي حديث عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فضل الله القرآن. ورحمته أن جعلكم من أهله يعني أن هداكم إلى اتباعه. ومثله عن أبي سعيد الخدْري والبراءِ موقوفاً، وهو الذي يقتضيه اللفظ فإن الفضل هو هداية الله التي في القرآن، والرحمة هي التوفيق إلى اتباع الشريعة التي هي الرحمة في الدنيا والآخرة. وجملة { هو خير مما يجمعون } مبيّنة للمقصود من القصر المستفاد من تقديم المجرورين.

السابقالتالي
2 3