الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ }

استئناف أو اعتراض، يجوز أن يكون لابتداء غرض جديد وهو خطاب جميع الناس بالتعريف بشأن القرآن وهديه، بعد أن كان الكلام في جدال المشركين والاحتجاج عليهم بإعجاز القرآن على أنه من عند الله وأن الآتي به صادق فيما جاء به من تهديدهم وتخويفهم من عاقبة تكذيب الأمم رُسلَها، وما ذيل به ذلك من الوعيد وتحقيق ما توعدوا به، فالكلام الآن منعطف إلى الغرض المفتتح بقولهوما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله } يونس 37 إلى قولهولو كانوا لا يبصرون } يونس 43. فعاد الكلام إلى خطاب جميع الناس لما في القرآن من المنافع الصالحة لهم، والإشارة إلى اختلافهم في مقدار الانتفاع به، ولذلك كان الخطاب هنا عاماً لجميع الناس ولم يأت فيه ما يقتضي توجيهه لخصوص المشركين من ضمائر تعود إليهم أو أوصاف لهم أو صلات موصول. وعلى هذا الوجه فليس في الخطاب بـ { يأيّها الناس } التفات من الغيبة إلى الخطاب، والمعنى أن القرآن موعظة لجميع الناس وإنما انتفع بموعظته المؤمنون فاهتدوا وكان لهم رحمة. ويجوز أن يكون خطاباً للمشركين بناء على الأكثر في خطاب القرآن بـ { يأيها الناس } فيكون ذكر الثناء على القرآن بأنه هدًى ورحمة للمؤمنين إدماجاً وتسجيلاً على المشركين بأنهم حَرموا أنفسهم الانتفاع بموعظة القرآن وشفائه لما في الصدور، فانتفع المؤمنون بذلك. وافتتاح الكلام بـ { قد } لتأكيده، لأن في المخاطبين كثيراً ممن ينكر هذه الأوصاف للقرآن. والمجيء مستعمل مجازاً في الإعلام بالشيء، كما استعمل للبلوغ أيضاً، إلا أن البلوغ أشهر في هذا وأكثر، يُقال بلغني خبر كذا، ويقال أيضاً جاءني خبر كذا أو أتاني خبر كذا. وإطلاق المجيء عليه في هذه الآية أعز. والمراد بما جاءهم وبلغهم هو ما أنزل من القرآن وقرىء عليهم، وقد عبر عنه بأربع صفات هي أصول كماله وخصائصه وهي أنه موعظة، وأنه شفاء لما في الصدور، وأنه هدى، وأنه رحمةٌ للمؤمنين. والموعظة الوعظ، وهو كلام فيه نصح وتحذير مما يضر. وقد مضى الكلام عليها عند قوله تعالىفأعرض عنهم وعظهم } في سورة النساء 63، وعند قوله تعالىموعظة وتفصيلاً لكل شيء } في سورة الأعراف 145. ووصفها بـ { من ربكم } للتنبيه على أنها بالغة غاية كمال أمثالها. والشفاء تقدم عند قوله تعالىويشف صدور قوم مؤمنين } في سورة براءة 14. وحقيقته زوال المرض والألم، ومجازه زوال النقائص والضلالات وما فيه حرج على النفس، وهذا هو المراد هنا. والمراد بالصدور النفوس كما هو شائع في الاستعمال. والهدى تقدم في قوله تعالىهدى للمتقين } في طالع سورة البقرة 2، وأصله الدالة على الطريق الموصل إلى المقصود. ومجازه بيان وسائل الحصول على المنافع الحقة.

السابقالتالي
2 3