الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي ٱلأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

الأظهر أن هذه الجملة من بقية القول، فهي عطف على جملةإي وربي إنه لحق } يونس 53 إعلاماً لهم بهول ذلك العذاب عساهم أن يحذروه، ولذلك حذف المتعلِّق الثاني لفعل افتدت لأنه يقتضي مفدياً به ومفدياً منه، أي لافتدت به من العذاب. والمعنى أن هذا العذاب لا تتحمله أية نفس على تفاوت الأنفس في احتمال الآلام، ولذلك ذكر { كل نفس } دون أن يقال ولو أن لكم ما في الأرض لافتديتم به. وجملة { أن لكل نفس ظلمتْ ما في الأرض } واقعة موقع شرط لو. و { ما في الأرض } اسم أن. و { ولكل نفس } خبر أن وقدم على الاسم للاهتمام بما فيه من العموم بحيث ينص على أنه لا تسلم نفس من ذلك. وجملة { ظلمت } صفة لِـ { لنفس }. وجملة { لافتدت به } جواب لو. فعموم { كل نفس } يشمل نفوس المخاطبين مع غيرهم. ومعنى { ظلمت } أشركت، وهو ظلم النفسإن الشرك لظلم عظيم } لقمان 13. و { ما في الأرض } يعم كل شيء في ظاهر الأرض وباطنها لأن الظرفية ظرفية جمع واحتواء. وافتدى مرادف فدى. وفيه زيادة تاء الافتعال لتدل على زيادة المعنى، أي لتكلفت فداءها به. { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } جملة مستأنفة معطوفة عطف كلام على كلام. وضمير { أسروا } عائد إلى { كل نفس } باعتبار المعنى مع تغليب المذكر على المؤنث، وعبر عن الإسرار المستقبَلي بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه حتى كأنَّه قد مضى، والمعنى وسيسرُّون الندامة قطعاً. وكذلك قوله { وقُضيَ بينهم }. والندامة الندم، وهو أسف يحصل في النفس على تفويت شيء ممكن عمله في الماضي، والندم من هواجس النفس، فهو أمر غير ظاهر ولكنه كثير، أي يصدر عن صاحبه قولٌ أو فعل يدل عليه، فإذا تجلد صاحب الندم فلم يظهر قولاً ولا فعلاً فقد أسر الندامة، أي قصرها على سِره فلم يظهرها بإظهار بعض آثارها، وإنما يكون ذلك من شدة الهول فإنما أسروا الندامة لأنهم دهشوا لرؤية ما لم يكونوا يحتسبون فلم يطيقوا صراخاً ولا عويلاً. وجملة { وقُضي بينهم } عطف على جملة { وأسروا } مستأنفة. ومعنى { قضي بينهم } قضي فيهم، أي قضي على كل واحد منهم بما يستحقه بالعدل، فالقضاء بالعدل وقع فيهم، وليس المعنى أنه قضي بين كل واحد وآخر لأن القضاء هنا ليس قضاء نزاع ولكنه قضاء زجر وتأنيب، إذ ليس الكلام هنا إلا على المشركين وهم صنف واحد، بخلاف قوله تعالىفإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط } يونس 47 فإن ذلك قضاء بين المرسل إليهم وبين الرسل كما قال تعالىفلنَسألنَّ الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين } الأعراف 6، 7. وجملة { وهم لا يظلمون } حالية.