الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } * { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }

عطف على جملةوإما نرينك بعض الذي نعدهم } يونس 46، والمناسبة أنه لما بيَّنت الآية السالفة أن تعجيل الوعيد في الدنيا لهم وتأخيره سواء عند الله تعالى، إذ الوعيد الأتم هو وعيد الآخرة، أتبعت بهذه الآية حكاية لتهكمهم على تأخير الوعيد. وحُكي قولهم بصيغة المضارع لقصد استحضار الحالة، كقوله تعالىويصنع الفلك } هود 38 للدلالة على تكرر صدوره منهم، وأطلق الوعد على الموعود به، فالسؤال عنه باسم الزمان مُؤول بتقدير يدل عليه المقام، أي متى ظهوره. والسؤال مستعمل في الاستبطاء، وهو كناية عن عدم اكتراثهم به وأنهم لا يأبهون به لينتقل من ذلك إلى أنهم مكذبون بحصوله بطريق الإيماء بقرينة قولهم { إن كنتم صادقين } أي إن كنتم صادقين في أنه واقع فعينوا لنا وقته، وهم يريدون أننا لا نصدقك حتى نرى ما وعدتنا كناية عن اعتقادهم عدم حلوله وأنهم لا يصدقون به. والوعد المذكور هنا ما هددوا به من عذاب الدنيا. والخطاب بقولهم { إن كنتم } للرسول، فضمير التعظيم للتهكم كما في قولهوقالوا يا أيها الذي نُزّل عليه الذكر إنَّك لمجنون } الحجر 6 وقولِهوقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام } الفرقان 7 وقولِ أبي بكر بن الأسود الكناني
يخَبّرنا الرسولُ بأنْ سنحْيَا وكيفَ حياة أصداء وهامِ   
وهذا المحمل هو المناسب لجوابهم بقوله { قل لا أملك }. ويجوز أن يكون الخطاب للنبيء وللمسلمين، جمعوهم في الخطاب لأن النبي أخبر به والمسلمين آمنوا به فخاطبوهم بذلك جميعاً لتكذيب النبي وإدخال الشك في نفوس المؤمنين به. وإنما خص الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالأمر بجوابهم لأنه الذي أخبرهم بالوعيد وأما المؤمنون فتابعون له في ذلك. ومعنى { لا أملك لنفسي ضَراً ولا نفعاً } لا أستطيع، كما تقدم في قوله تعالىقل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضَراً ولا نفعاً } في سورة العقود 76. وقدم الضر على النفع لأنه أنسب بالغرض لأنهم أظهروا استبطاء ما فيه مضرتهم وهو الوعيد ولأن استطاعة الضر أهون من استطاعة النفع فيكون ذكر النفع بعده ارتقاء. والمقصود من جمع الأمرين الإحاطةُ بجنسي الأحوال. وتقدم في سورة الأعراف وجه تقديم النفع على الضر في نظير هذه الآية. وقوله { إلا ما شاء الله } استثناء منقطع بمعنى لكن، أي لكن نفعي وضري هو ما يشاءه الله لي. وهذا الجواب يقتضي إبطال كلامهم بالأسلوب المصطلح على تلقيبه في فن البديع بالمذهب الكلامي، أي بطريق برهاني، لأنه إذا كان لا يستطيع لنفسه ضراً ولا نفعاً فعدم استطاعته ما فيه ضَر غيره بهذا الوعد أولى من حيث إن أقرب الأشياء إلى مقدرة المرء هو ما له اختصاص بذاته، لأن الله أودع في الإنسان قدرة استعمال قواه وأعضائه، فلو كان الله مقدراً إياه على إيجاد شيء من المنافع والمضار في أحوال الكون لكان أقرب الأشياء إلى إقداره ما له تعلق بأحوال ذاته، لأن بعض أسبابها في مقدرته، فلا جرم كان الإنسان مسيّراً في شؤونه بقدرة الله لأن معظم أسباب المنافع والمضار من الحوادث منوط بعضه ببعض، فموافقاته ومخالفاته خارجة عن مقدور الإنسان، فلذلك قد يقع ما يضره وهو عاجز عن دفعه.

السابقالتالي
2