الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ ٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ }

كانَ ذكر تكذيبهم الذي جاء في صدر السورة بقولهقال الكافرون إنّ هذا لساحر مبين } يونس 2، ثم الوعيد عليه بعذاب يحل بهم، والإشارةُ إلى أنهم كذبوا بالوعيد في قولهولو يعجل الله للناس الشر } يونس 11 إلى قولهلننظر كيف تعملون } يونس 14 منذراً بترقب عذاب يحل بهم في الدنيا كما حل بالقرون الذين من قبلهم، وكان معلوماً من خلق النبي صلى الله عليه وسلم رأفتُه بالناس ورغبتُه أن يتم هذا الدين وأن يهتدي جميع المدعوين إليه، فربما كان النبي يحذر أن ينزل بهم عذاب الاستئصال فيفوت اهتداؤهم. وكان قولهولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون } يونس 11 تصريحاً بإمكان استبقائهم وإيماءً إلى إمهالهم. جاء هذا الكلام بياناً لذلك وإنذاراً بأنهم إن أمهلوا فأبقي عليهم في الدنيا فإنهم غير مفلتين من المصير إلى عقاب الآخرة حين يرجعون إلى تصرف الله دون حائل. وجاء الكلام على طريقة إبْهام الحاصل من الحالين لإيقاع الناس بين الخوف والرجاء وإن كان المخاطب به النبي ـ صلى الله عليه وسلم والمرادُ بـ { بعض الذي نعدهم } هو عذاب الدنيا فإنهم أوعدوا بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، قال تعالى { وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك }. فالمعنى إن وقع عذاب الدنيا بهم فرأيتَه أنت أو لم يقع فتوفاك الله فمصيرهم إلينا على كل حال. فمضمون { أو نتوفينك } قسيم لمضمون { نرينك بعضَ الذي نعدهم }. والجملتان معاً جملتا شرط، وجواب الشرط قوله { فإلينا مرجعهم }. ولما جعل جواب الشرطين إرجاعَهم إلى الله المكنَّى به عن العقاب الآجِل، تعين أن التقسيم الواقع في الشرط ترديد بين حالتين لهما مناسبة بحالة تحقق الإرجاع إلى عذاب الله على كلا التقديرين، وهما حالة التعجيل لهم بالعذاب في الدنيا وحالة تأخير العذاب إلى الآخرة. وأما إراءة الرسول تعذيبهم وتوفيه بدون إرائته فلا مناسبة لهما بالإرجاع إلى الله على كلتيهما إلا باعتبار مقارنة إحداهما لحالة التعجيل ومناسبة الأخرى لحالة التأخير. وإنما كُني عن التعجيل بأن يريد اللّهُ الرسولَ للإيماء إلى أن حالة تعجيل العذاب لا يريد الله منها إلا الانتصاف لرسوله بأن يريه عذاب معانديه، ولذلك بُني على ضد ذلك ضدّ التعجيل فكُني بتوفيه عن عدم تعجيل العذاب بل عن تأخيره إذْ كانت حكمة التعجيل هي الانتصافَ للرسول صلى الله عليه وسلم ولما جعل مضمون جملة { نتوفينك } قسيماً لمضمون جملة { نرينك } تعين أن إراءته ما أوعدوا به من عذاب الدنيا إنما هو جزاء عن تكذيبهم إياه وأذَاهُم له انتصاراً له حتى يكون أمره جارياً على سنة الله في المرسلين، كما قال نوحرب انصرني بما كذبون }

السابقالتالي
2 3