الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ بِٱلْقِسْطِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ }

وقع أمرهم بعبادته عقب ذكر الجزاء إنذاراً وتبشيراً، فالجملة كالدليل على وجوب عبادته، وهي بمنزلة النتيجة الناشئة عن إثبات خلقه السماوات والأرض لأن الذي خلق مثل تلك العوالم من غير سابق وجود لا يعجزه أن يعيد بعض الموجودات الكائنة في تلك العوالم خلقاً ثانياً. ومما يشير إلى هذا قوله { إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } ، فبَدء الخلق هو ما سبق ذكره، وإعادتُه هي ما أفاده قوله { إليه مرجعكم جميعاً } ولذلك فصلت عن التي قبلها لما بينهما من شبه كمال الاتصال، على أنها يجوز كونها خبراً آخر عن قولهإن ربكم } يونس 3، أو عن قولهذلكم الله ربكم } يونس 3. وقد تضمنت هذه الجملة إثبات الحشر الذي أنكروه وكذبوا النبيءَ صلى الله عليه وسلم لأجله. وفي تقديم المجرور في قوله { إليه مرجعكم } إفادة القصر، أي لا إلى غيره، قطعاً لمطامع بعضهم القائلين في آلهتهمهؤلاء شفعاؤنا عند الله } يونس 18 يريدون أنهم شفعاء على تسليم وقوع البعث للجزاء، فإذا كان الرجوع إليه لا إلى غيره كان حقيقاً بالعبادة وكانت عبادة غيره باطلاً. والمرجع مصدر ميمي بمعنى الرجوع. وقد تقدم في قولهإلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون } في سورة العقود 105. و { جميعاً } حال من ضمير المخاطبين المضاف إليه المصدر العامل فيه. وانتصب { وعدَ الله } على المفعولية المطلقة توكيداً لمضمون الجملة المساوية له، ويسمى موكِّداً لنفسه في اصطلاح النحاة، لأن مضمون { إليه مرجعكم } الوعد بإرجاعهم إليه وهو مفاد وعد الله، ويقدر له عامل محذوف لأن الجملة المؤكدة لا تصلح للعمل فيه. والتقدير وعدَكم اللّهُ وعداً حقاً. وانتصب { حقاً } على المفعولية المطلقة المؤكدة لمضمون جملة { وعد الله } باعتبار الفعل المحذوف. ويسمى في اصطلاح النحاة مؤكداً لغيره، أي موكداً لأحد معنيين تحتملهما الجملة المؤكدة. وجملة { إنه يبدأ الخلق } واقعة موقع الدليل على وقوع البعث وإمكانه بأنه قد ابتدأ خلق الناس، وابتداء خلقهم يدل على إمكان إعادة خلقهم بعد العدم، وثبوت إمكانه يدفع تكذيب المشركين به، فكان إمكانه دليلاً لقوله { إليه مرجعكم جميعاً } ، وكان الاستدلال على إمكانه حاصلاً من تقديم التذكير ببدء خلق السماوات والأرض كقوله تعالىوهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } الروم 27. وموقع إن تأكيد الخبر نظراً لإنكارهم البعث، فحصل التأكيد من قوله { ثم يعيده } أما كونه بدأ الخلق فلا ينكرونه. وقرأ الجمهور { إنه يبدأ الخلق } بكسر همزة إنه. وقرأه أبو جعفر بفتح الهمزة على تقدير لام التعليل محذوفة، أي حق وعده بالبعث لأنه يبدأ الخلق ثم يعيده فلا تعجزه الإعادة بعد الخلق الأول، أو المصدر مفعول مطلق منصوب بما نصب به { وعْدَ الله } أي وَعَدَ الله وعداً بَدْءَ الخلق ثم إعادته فيكون بدلاً من { وعْد الله } بدلاً مطابقاً أو عطف بيان.

السابقالتالي
2 3