الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كَانَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }

لما كان الغرض الأول في هذه السورة إبطال تعجب المشركين من الإيحاء بالقرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتبيين عدم اهتدائهم إلى آياته البينات الدالة على أنه من عند الله، وكيف لم ينظروا في أحوال الرسول الدالة على أن ما جاء به وحي من الله، وكيف سألوه مع ذلك أن يأتي بقرآن غيره أو يبدل آياته بما يوافق أهواءهم. ثم انتقل بعد ذلك إلى سُؤَالهم أن تنزل عليه آية أخرى من عند الله غير القرآن، وتخلل ذلك كلَّه وصفُ افترائهم الكذب في دعوى الشركاء لله وإقامة الأدلة على انفراد الله بالإلهية وعلى إثبات البعث، وإنذارهم بما نال الأمم من قبلهم، وتذكيرهم بنعم الله عليهم وإمهالهم، وبيان خطئهم في اعتقاد الشرك اعتقاداً مبنياً على سوء النظر والقياس الفاسد، لا جرم عاد الكلام إلى قولهم في القرآن بإبطال رأيهم الذي هو من الظن الباطل أيضاً بقياسهم أحوالَ النبوءة والوحي بمقياس عاداتهم كما قاسُوا حقيقة الإلهية بمثل ذلك، فقارعتهم هذه الآيةُ بذكر صفات القرآن في ذاته الدالة على أنه حق من الله وتحدتهم بالإعجاز عن الإتيان بمثله. فجملة { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله } يجوز أن تكون معطوفة على جملةوما يتبع أكثرهم إلا ظناً } يونس 36 بمناسبة اتباعهم الظن في الأمرين شؤون الإلهية وفي شؤون النبوءة، ويجوز أن تكون معطوفة على مجموع ما تقدم عطف الغرض على الغرض والقصة على القصة، وهو مفيد تفصيل ما أجمله ذكر الحروف المقطعة في أول السورة والجمل الثلاث التي بعد تلك الحروف. ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملةقل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي } يونس 15 تكملة للجواب عن قولهمائت بقرآن غير هذا أو بدله } يونس 15 وهذا الكلام مسوق للتحدي بإعجاز القرآن، وهي مفيدة للمبالغة في نفي أن يكون مفترى من غير الله، أي منسوباً إلى الله كذباً وهو آتٍ من غيره، فإن قوله { ما كان هذا القرآن أن يفترى } أبلغ من أن يقال ما هو بمفترى، لما يدل عليه فعل الكون من الوجود، أي ما وجد أن يفترى، أي وجوده مناف لافترائه، فدلالة ذاته كافية في أنه غير مفترى، أي لو تأمل المتأمل الفطن تأملاً صادقاً في سور القرآن لعلم أنه من عند الله وأنه لا يجوز أن يكون من وضع البشر، فتركيب ما كان أن يفترى بمنزلة أن يقال ما كان ليفترى، بلام الجحود، فحُذف لام الجحود على طريقة حَذْف الجار اطراداً مع أنْ، ولما ظهرت أنْ هنا حذف لام الجحود وإن كان الغالب أن يذكر لام الجحود وتقدر أنْ ولا تذكر، فلما ذكر فعل كان الذي شأنه أن يذكر مع لام الجحود استغني بذكره عن ذكر لام الجحود قصداً للإيجاز.

السابقالتالي
2