الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }

عطف على جملةقل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق } يونس 35 باعتبار عطف تلك على نظيرتيها المذكورتين قبلَها، فبعد أن أمر الله رسولَه بأن يحجهم فيما جعلوهم آلهة وهي لا تصرف ولا تدبير ولا هداية لها، أعقب ذلك بأن عبادتهم إياها اتّباع لظن باطل، أي لوهَم ليس فيه شبهة حق. والضمير في قوله { أكثرهم } عائد إلى أصحاب ضميرشركائكم } يونس 35 وضميرما لكم كيف تحكمون } يونس 35. وإنما عَمَّهم في ضمائر " شركائِكم وما لَكم كيف تحكمون " ، وخصّ بالحكم في اتِّباعهم الظن أكثرَهم، لأن جميع المشركين اتفقوا في اتباع عبادة الأصنام. وبين هنا أنهم ليسوا سواء في الاعتقاد الباعث لهم على عبادتها إيماء إلى أن من بينهم عُقَلاء قليلين ارتقت مدارك أفهامهم فوق أن يعتقدوا أن للأصنام تصرفاً ولكنهم أظهروا عبادتها تبعاً للهوَى وحفظاً للسيادة بين قومهم. والمقصود من هذا ليس هو تبرئة للذين عبدوا الأصنام عن غير ظن بإلهيتها فإنهم شر من الذين عبدوها عن تَخيل، ولكن المقصود هو زيادة الاستدلال على بطلان عبادتها حتى أن من عُبَّادها فريقاً ليسوا مطمئنين لتحقق إلهيتها. وبالتأمل يظهر أن هؤلاء هم خاصة القوم وأهل الأحلام منهم لأن المقام مقام تخطئة ذلك الظن. ففيه إيقاظ لجمهورهم، وفيه زيادة موعظة لخاصتهم ليقلعوا عن الاستمرار في عبادة ما لا تطْمئن إليه قلوبهم. وهذا كقوله الآتيومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به } يونس 40. والظن يطلق على مراتب الإدراك، فيطلق على الاعتقاد الجازم الذي لا يشوبه شك، كما في قوله تعالىوإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون } البقرة 45، 46 ويطلق على الاعتقاد المشوب بشك. ويظهر أنه حقيقة في هذا الثاني وأنه مجاز في الأول لكنه في الأول شائع فصار كالمشترك. وقد تقدم في سورة البقرة عند الكلام على الآية المذكورة. ومنه قوله تعالىقال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين } في سورة الأعراف 66، وقولهوظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه } في سورة براءة 118. وقد أطلق مجازاً على الاعتقاد المخطىء، كما في قوله تعالىإن بعض الظن إثم } الحجرات 12 وقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث. والظن كثر إطلاقه في القرآن والسنة على العلم المخطىء أو الجهل المركب والتخيلات الباطلة، قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " وقد يطلق على الظن الحصيبي كقوله تعالىظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً } النور 12 وقوله تعالىإن بعض الظن إثم } الحجرات 12. وهذا المعنى هو المصطلح عليه عند علماء أصول الدين وأصول الفقه.

السابقالتالي
2