الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }

هذا تكرير آخر بعد قولهقل هل من شركائكم من يَبدأ الخلق ثم يعيده } يونس 34. وهذا استدلال بنقصان آلهتهم عن الإرشاد إلى الكمال النفساني بنشر الحق، وبأن الله تعالى هو الهادي إلى الكمال والحق، ومجموع الجملتين مفيد قَصْر صفة الهداية إلى الحق على الله تعالى دون آلهتهم قصرَ إفراد، كما تقدم في نظيره آنفاً. ومعلوم أن منة الهداية إلى الحق أعظم المنن لأن بها صلاح المجتمع وسلامة أفراده من اعتداء قويّهم على ضعيفهم، ولولا الهداية لكانت نعمة الإيجاد مختلة في مضمحلة. والمراد بالحق الدين، وهو الأعمال الصالحة، وأصوله وهي الاعتقاد الصحيح. وقد أتبع الاستدلال على كمال الخالق ببدء الخلق وإعادته بالاستدلال على كماله بالهداية كما في قول إبراهيم ـ عليه السلام ـالذي خلقني فهو يهدين } الشعراء 78 وقول موسى ـ عليه السلام ـربّنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هَدى } طه 50 وقوله تعالىسبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدّر فهدى } الأعلى 1 ـ 3. وذلك أن الإنسان الذي هو أكمل ما على الأرض مركب من جسد وروح، فالاستدلال على وجود الخالق وكماله بإيجاد الأجساد وما فيها هو الخلق، والاستدلال عليه بنظام أحوال الأرواح وصلاحها هو الهداية. وقوله { أفمن يهدي إلى الحق أحق من يتبع } إلى آخره تفريع استفهام تقريري على ما أفادته الجملتان السابقتان من قصر الهداية إلى الحق على الله تعالى دون آلهتهم. وهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه أهل العقول بأن الذي يهدي إلى الحق يوصل إلى الكمال الروحاني وهو الكمال الباقي إلى الأبد وهو الكون المصون عن الفساد فإن خلق الأجساد مقصود لأجل الأرواح، والأرواح مراد منها الاهتداء، فالمقصود الأعلى هو الهداية. وإذ قد كانت العقول عرضة للاضطراب والخطأ احتاجت النفوس إلى هدي يتلقى من الجانب المعصوم عن الخطإ وهو جانب الله تعالى، فلذلك كان الذي يهدي إلى الحق أحق أن يتبع لأنه مصلح النفوس ومصلح نظام العالم البشري، فاتباعه واجب عقلاً واتباع غيره لا مصحح له، إذ لا غاية ترجى من اتباعه. وأفعال العقلاء تصان عن العبث. وقوله { أمّن لا يَهدّي إلا أن يُهدى } أي الذي لا يهتدي فضلاً عن أن يَهدي غيره، أي لا يقبل الهداية فكيف يهدي غيره فلا يحق له أن يتبع. والمراد بـ { من لا يهدي } الأصنام فإنها لا تهتدي إلى شيء، كما قال إبراهيم ـيا أبتِ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً } مريم 42. وقد اختلف القراء في قوله { أمَّن لا يَهدي } فقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو ـ بفتح التحتية وفتح الهاء ـ على أن أصله يهتدي، أبدلت التاء دالاً لتقارب مخرجيهما وأدغمت في الدال ونقلت حركة التاء إلى الهاء الساكنة ولا أهمية إلى قراءة قالون عن نافع إلى قراءة أبي عمرو بجعل فتح الهاء مختلساً بين الفتح والسكون لأن ذلك من وجوه الأداء فلا يعد خلافاً في القراءة.

السابقالتالي
2