الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وٱلأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }

انتقال من غرض إلى غرض في أفانين إبطال الشرك وإثبات توحد الله تعالى بالإلهية. وهذه الجملة تتنزل منزلة الاستدلال لقولهمولاهم الحق } يونس 30 لأنها برهان على أنه المستحق للولاية. فاحتج على ذلك بمواهب الرزق الذي به قوام الحياة، وبموهبة الحواس، وبنظام التناسل والتوالد الذي به بقاء الأنواع، وبتدبير نظام العالم وتقدير المقدرات، فهذه كلها مواهب من الله وهم كانوا يعلمون أن جميع ما ذكر لا يفعله إلا الله إذ لم يكونوا ينسبون إلى أصنامهم هذه الأمور، فلا جرم أن كان المختص بها هو مستحق الولاية والإلهية. والاستفهام تقريري. وجاء الاستدلال بطريقة الاستفهام والجوابِ لأن ذلك في صورة الحوار، فيكون الدليل الحاصل به أوقع في نفوس السامعين، ولذلك كان من طرق التعليم مما يراد رسوخه من القواعد العلمية أن يؤتى به في صورة السؤال والجواب. وقوله { من السماء والأرض } تذكير بأحوال الرزق ليكون أقوى حضوراً في الذهن، فالرزق من السماء المطر، والرزق من الأرض النبات كله من حب وثمر وكلأ. وأم في قوله { أم من يملك السمع } للإضراب الانتقالي من استفهام إلى آخر. ومعنى { يملك السمع والأبصار } يملك التصرف فيهما، وهو مِلك إيجاد تينك الحاستين وذلك استدلال وتذكير بأنفع صنع وأدقه. وأفرد { السمع } لأنه مصدر فهو دال على الجنس الموجود في جميع حواس الناس. وأما { الأبصار } فجيء به جمعاً لأنه اسم، فهو ليس نصاً في إفادة العموم لاحتمال توهم بصر مخصوص فكان الجمع أدل على قصد العموم وأنفى لاحتمال العهد ونحوه بخلاف قولهإن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً } الإسراء 36 لأن المراد الواحد لكل مخاطب بقولهولا تقفُ ما ليس لك به علم } الإسراء 36. وقد تقدم عند قوله تعالىقل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } في سورة الأنعام 46. وإخراجُ الحي من الميت هو تولد أطفال الحيوان من النطف ومن البَيْض فالنطفة أو البيضة تكون لا حياة فيها ثم تتطور إلى الشكل القابل للحياة ثم تكون فيها الحياة. ومِن في قوله { مِن الميت } للابتداء. وإخراج الميت من الحي إخراج النطفةِ والبيضِ من الحيوان. والتعريف في { الحي } و { الميت } في المرتين تعريف الجنس. وقد نظم هذا الاستدلال على ذلك الصنع العجيب بأسلوب الأحاجي والألغاز وجعل بمحسن التضاد، كل ذلك لزيادة التعجيب منه. وقد تقدم الكلام على نظيره في قولهوتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي } في سورة آل عمران 27. غير أن ما هنا ليس فيه رمز إلى شيء. وقوله { ومن يدبر الأمر } تقدم القول في نظيره في أوائل هذه السورة. وهو هنا تعميم بعد تخصيص ذكر ما فيه مزيد عبرة في أنفسهم كالعِبرة في قوله

السابقالتالي
2