الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }

استئناف ابتدائي للاستدلال على تفرد الله تعالى بالإلهية. وإنما أوقع هنا لأن أقوى شيء بَعثَ المشركين على ادعاء أن ما جاء به النبي سحر هو أنه أبطل الشركاء لله في الإلهية ونفاها عن آلهتهم التي أشركوا بها فقالواأجعل الآلهةَ إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب } ص 5 فلا جرم أن أعقب إنكار إحالتهم ذلك بإقامة الدليل على ثبوته. والخطاب للمشركين، ولذلك أكد الخبر بحرف التوكيد، وأوقع عقبهأفلا تذكرون } يونس 2، فهو التفات من الغيبة في قوله { أكَانَ للناس عجباً } وقوله { قال الكافرون }. وقد مضى القول في نظير صدر هذه الآية في سورة الأعراف إلى قوله { ثم استوى على العرش }. وقوله { الله } خبر { إن } ، كما دل عليه قوله بعده { ذالكم الله ربكم فاعبدوه }. وجملة { يُدبر الأمر } في موضع الحال من اسم الجلالة، أو خبر ثان عن { ربكم }. والتدبير النظر في عواقب المقدرات وعوائقها لقصد إيقاعها تامة فيما تقصد له محمودةَ العاقبة. والغاية من التدبير الإيجاد والعملُ على وفق ما دُبر. وتدبير الله الأمور عبارة عن تمام العلم بما يخلقها عليه، لأن لفظ التدبير هو أوفى الألفاظ اللغوية بتقريب إتقان الخلق. والأمر جنس يعم جميع الشؤون والأحوال في العالم. وتقدم في قولهوقلَّبوا لك الأمور } في سورة براءة 48. وفي إجراء هذه الصفات على الله تعالى تعريض بالرد على المشركين إذ جعلوا لأنفسهم آلهة لا تخلق ولا تعلم كما قال تعالىلا يخلُقون شيئاً وهم يخلقون } النحل 20. ولذلك حسن وقع جملة { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } عقب جملة { الذي خلق } بتمامها، لأن المشركين جعلوا آلهتهم شفعاء فإذا أنذروا بغضب الله يقولونهؤلاء شفعاؤنا عند الله } يونس 18، أي حُماتنا من غضبه. فبعد أن وُصف الإله الحق بما هو منتف عن آلهتهم نُفِي عن آلهتهم وصْف الشفاعة عند الله وحماية المغضوب عليهم منه. وأكد النفي بـ { من } التي تقع بعد حرف النفي لتأكيد النفي وانتفاء الوصف عن جميع أفراد الجنس الذي دخلت من على اسمه بحيث لم تبق لآلهتهم خصوصية. وزيادة { إلاّ مِنْ بعد إذنه } احتراس لإثبات شفاعة محمَّد صلى الله عليه وسلم بإذن الله، قال تعالىولا يشفعون إلا لمن ارتضى } الأنبياء 28. والمقصود من ذلك نفي الشفاعة لآلهتهم من حيث إنهم شركاء لله في الإلهية، فشفاعتهم عنده نافذة كشفاعة الند عند نده. والشفاعة تقدمت عند قوله تعالىولا يقبل منها شفاعة } في سورة البقرة 48. وكذلك الشفيع تقدم عند قولهفهل لنا من شفعاء } في سورة الأعراف 53. وموقع جملة { ما من شفيع } مثل موقع جمله { يدبر الأمر }. وجملة { ذلكم الله ربكم } ابتدائية فذلكةٌ للجمل التي قبلها ونتيجة لها، وهي معترضة بين تلك الجمل وبين الجملة المفرعَة عليها، وهي جملة { فاعبدوه } ، وتأكيد لمضمون الجملة الأصلية وهي جملة { إن ربكم الله }.

السابقالتالي
2