الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } * { فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }

{ هُوَ ٱلَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ * فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى ٱلاَْرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ } هذه الجملة بدل اشمال من جملةوإذا أذقنا الناس رحمة } يونس 21 إلى آخرها لأن البغي في الأرض اشتمل عليه المكر في آيات الله. والمقصود من هذه الجملة هو قوله { فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض } وما سواه تمهيد وإدماج للامتنان. أعقب التهديد على كفران النعمة بذكر بعض نعم الله عليهم ثم ضَراء تعقب النعمة للابتلاء والتذكير بخالقهم، ثم كيف تُفرج عنهم رحمةً بهم فيكفر فريق منهم كلتا النعمتين ولا يتذكر، فكان المقصود أنَّ في ذلك أعظم الآيات على الوحدانية فكيف يقولونلولا أنزل عليه آية من ربه } يونس 20 وفي كل شيء له آية، وفي كل ذلك امتنان عليهم بالنعمة وتسجيل لكفرانها ولتوارد الآيات عليهم ولكيلا يغتروا بالإمهال فيحسبوه رضى بكفرهم أو عجزاً عن أخذهم، وهذا موقع رشيق جد الرشاقة لهذه الآية القرآنية. وإسناد التسْيير إلى الله تعالى باعتبار أنه سببه لأنه خالق إلهام التفكير وقوى الحركة العقلية والجسدية، فالإسناد مجاز عقلي، فالقصر المفاد من جملة { هو الذي يسيركم } قصر ادعائي. والكلام مستعمل في الامتنان والتعريض بإخلالهم بواجب الشكر. و { حتى } ابتدائية، وهي غاية للتسيير في البحار خاصة. وإنما كانت غاية باعتبار ما عطف على مدخولها من قوله { دَعَوا الله } ـ إلى قوله ـ { بغير الحق } ، والمغيَّا هو ما في قوله { يسيركم } من المنة المؤذنة بأنه تسيير رفق ملائم للناس، فكان ما بعد حتى ومعطوفاتها نهايةَ ذلك الرفق، لأن تلك الحالة التي بعد حتى ينتهي عندها السير المنعَم به ويدخلون في حالة البأساء والضراء، وهذا النظم نسج بديع في أفانين الكلام. ومن بديع الأسلوب في الآية أنها لما كانت بصدد ذكر النعمة جاءت بضمائر الخطاب الصالحة لجميع السامعين، فلما تهيأت للانتقال إلى ذكر الضراء وقع الانتقال من ضمائر الخطاب إلى ضمير الغيبة لتلوين الأسلوب بما يخلصه إلى الإفضاء إلى ما يخص المشركين فقال { وجَرين بهم } على طريقة الالتفات، أي وجرين بكم. وهكذا أجريت الضمائر جامعة للفريقين إلى أن قال { فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق } فإن هذا ليس من شيم المؤمنين فتمحض ضمير الغيبة هذا للمشركين، فقد أخرج من الخبر مَن عدا الذين يبغون في الأرض بغير الحق تعويلاً على القرينة لأن الذين يبغون في الأرض بغير الحق لا يشمل المسلمين. وهذا ضرب من الالتفات لم ينبه عليه أهل المعاني وهو كالتخصيص بطريق الرمز.

السابقالتالي
2 3 4 5