الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَٱخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }

جملة معترضة بين جملةيعبدون } يونس18 وجملةويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه } يونس 20. ومناسبة الاعتراض قوله { قل أتنبئون الله بما لا يعلم } لأن عبادة الأصنام واختراع صفة الشفاعة لها هو من الاختلاف الذي أحدثه ضلال البشر في العقيدة السليمة التي فطر الله الناس عليها في أول النشأة، فهي مما يشمله التوبيخ الذي في قولهأتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } يونس 18. وصيغة القصر للمبالغة في تأكيد الخبر لأنه خبر مهم عجيب هو من الحِكم العُمرانية والحقائق التاريخية بالمكان الأسمى، إذ القصر تأكيد على تأكيد باعتبار اشتماله على صيغتي إثبات للمثبَت ونفي عما عداه، فهو أقوى من تأكيد رد الإنكار، ولذلك يؤذن برد إنكار شديد. وحسَّن القصر هنا وقوعه عقب الجدال مع الذين غيروا الدين الحق وروجوا نحلتهم بالمعاذير الباطلة كقولهمهؤلاء شفعاؤنا عند الله } يونس 18، وقولهما نبعدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } الزمر 3، بخلاف آية سورة البقرة 213كان الناس أمة واحدة } فإنها وقعت في سياق المجادلة مع أهل الكتاب لقولهسل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة } البقرة 211 وأهل الكتاب لا ينكرون أن الناس كانوا أمة واحدة. فآية هذه السورة تشير إلى الوحدة الاعتقادية ولذلك عبر عن التفرق الطارىء عليها باعتبار الاختلاف المشعر بالمذمة والمعقب بالتخويف في قوله { ولولا كلمة سبقت } إلى آخره، وآية سورة البقرة تشير إلى الوحدة الشرعية التي تجمعها الحنيفية الفطرية، ولذلك عبر عن التفرق الذي طرأ عليها بأن الله بعث النبيين مبشرين ومنذرين، ثم جاء ذكر الاختلاف عرضاً عقب ذلك بقولهوأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } البقرة 213. وأريد به الاختلاف بين أتباع الشرائع لقولهوما اختلف فيه إلا الذين أوتوه } البقرة 213. وتقدم القول فيكان الناس أمة واحدة } في سورة البقرة 213. والناس اسم جمع للبشر. وتعريفه للاستغراق. والأمة الجماعة العظيمة التي لها حال واحد في شيء مَّا. والمراد هنا أمة واحدة في الدين. والسياق يدل على أن المراد أنها واحدة في الدين الحق وهو التوحيد لأن الحق هو الذي يمكن اتفاق البشر عليه لأنه ناشيء عن سلامة الاعتقاد من الضلال والتحْريف. والإنسان لما أنشىء على فطرة كاملة بعيدة عن التكلف. وإنما يتصور ذلك في معرفة الله تعالى دون الأعمال، لأنها قد تختلف باختلاف الحاجات، فإذا جاز أن يحدث في البشر الضلال والخطأ فلا يكون الضلال عاماً على عقولهم، فتعين أن الناس في معرفة الله تعالى كانوا أمة واحدة متفقين على التوحيد لأن الله لما فطر الإنسان فطره على عقل سليم موافق للواقع، ووَضَع في عقله الشعور بخالق وبأنه واحد وضعاً جِبلِّياً كما وضَع الإلهامات في أصناف الحيوان.

السابقالتالي
2