الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ ٱللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ }

عطف على جملةوإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } يونس 15 عطفَ القصة على القصة. فهذه قصة أخرى من قصص أحوال كفرهم أن قالواائت بقرآن غير هذا } يونس 15 حين تتلى عليهم آيات القرآن، ومن كفرهم أنهم يعبدون الأصنام ويقولون { هم شفعاؤنا عند الله }. والمناسبة بين القصتين أن في كلتيهما كفراً أظهروه في صورة السخرية والاستهزاء وإيهام أن العذر لهم في الاسترسال على الكفر، فلعلهم كما أوهموا أنه إنْ أتاهم قرآن غيرُ المتلو عليهم أو بُدل ما يرومون تبديلَه آمنوا كانوا إذا أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعذاب الله قالوا تشفع لنا آلهتنا عند الله. وقد روى أنه قاله النضر بن الحارث على معنى فرض ما لا يقع واقعاً «إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعُزّى». وهذا كقول العاص بن وائل، وكان مشركاً، لخبّاب بن الأرت، وهو مسلم، وقد تقاضاه أجراً له على سيف صنعه «إذا كان يوم القيامة الذي يُخبر به صاحبك يعني النبي صلى الله عليه وسلم فسيكون لي مال فأقضيك منه». وفيه نزل قوله تعالىأفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوُتَيَنَّ مالاً وولداً } مريم 77 الآية. ويجوز أن تكون جملة { ويعبدون } الخ عطفاً على جملةفمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } يونس 17 فإن عبادتهم ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الافتراء. وإيثار اسم الموصول في قوله { ما لا يضرهم ولا ينفعهم } لما تؤذن به صلة الموصول من التنبيه على أنهم مُخطئون في عبادة ما لا يضر ولا ينفع، وفيه تمهيد لعطف { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } لتحقير رأيهم من رجاء الشفاعة من تلك الأصنام، فإنها لا تقدر على ضر ولا نفع في الدنيا فهي أضعف مقدرة في الآخرة. واختيار صيغة المضارع في { يعبدون } و { يقولون } لاستحضار الحالة العجيبة من استمرارهم على عبادتها، أي عبدوا الأصنام ويعبدونها تعجيباً من تصميمهم على ضلالهم ومن قولهم { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } فاعترفوا بأن المتصرف هو الله. وقُدم ذكر نفي الضر على نفي النفع لأن المطلوب من المشركين الإقلاع عن عبادة الأصنام وقد كان سدنتها يخوفون عبدَتها بأنها تُلحق بهم وبصبيانهم الضر، كما قالت امرأة طفيل ابن عمرو الدوسي حين أخبرها أنه أسلم ودعاها إلى أن تُسلم فقالت «أما تخشى على الصبية من ذي الشَّرى». فأريد الابتداء بنفي الضر لإزالة أوهام المشركين في ذلك الصَّادَّة لكثير منهم عن نبذ عبادة الأصنام. وقد أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يرد عليهم بتهكم بهم بأنهم قد أخبروا الله بأن لَهم شفعاء لهم عنده. ومعنى ذلك أن هذا لما كان شيئاً اخترعوه وهو غير واقع جعل اختراعه بمنزلة أنهم أعلموا الله به وكان لا يعلمه فصار ذلك كناية عن بطلانه لأن ما لم يعلم الله وقوعه فهو منتف.

السابقالتالي
2