الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنْ أَعْبُدُ ٱللَّهَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

هذه الجملة متصلة المعنى بجملةقُل انظروا ماذا في السماوات والأرض } يونس 101، إذ المقصود من النظر المأمور به هُنالك النظرُ للاستدلال على إثبات الوحدانية، فإن جحودهم إيّاها هو الذي أقدمهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله إن الله بعثه بإثباتها وأبطل الإشراك، فلما أمرهم بالنظر المؤدي إلى إثبات انفراده تعالى بالإلهية أعقبه بأن يخبرهم بأنهم إن استمروا على الشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابت على ما جاء به وأن دلائل صحة دينه بينة للناظرين. والمراد بـ«الناس» في هذا الخطاب المشركون من أهل مكة، أو جميع أمة الدعوة الذين لمَّا يستجيبوا للدعوة. وفي من قوله { في شك } للظرفية المجازية المستعملة في التمكن تشبيهاً لتمكن الصفة بتمكن الظرف من المظروف من جهة الإحاطة. وعلق الظرف بذات الدين، والمراد الشك في حالة من أحواله وهي الحالة الملتبسة بهم أعني حالة حقيته. ومن في قوله { من ديني } للابتداء المجازي، أي شككٍ آتٍ من ديني. وهو ابتداء يَؤول إلى معنى السببية، أي إن كنتم شاكين شكاً سببه ديني، أي يتعلق بحقيته، لأن الشك يُحمل في كل مقام على ما يناسبه، كقولهفإن كنت في شك مما أنزلنا إليك } يونس 94. وقد تقدم آنفاً. وقولهوإن كنتم في ريب مما نَزّلنا على عبدنا } البقرة 23. والشك في الدين هو الشك في كونه حقاً، وكونِه من عند الله. وإنما يكون هذا الشك عند عدم تصور حقيقة هذا الدين بالكنه وعدم الاستدلال عليه، فالشك في صدقه يستلزم الشك في ماهيته لأنهم لو أدركوا كنهه لمَا شكُّوا في حقيته. وجملة { فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله } واقعة موقع جواب الشرط ودالة عليه في المعنى. فالتقدير الجواب فأنا على يقين من فساد دينكم، فلا أتبعه، فلا أعبد الذين تعبدونهم ولكن أعبد الله. ولما كان مضمون هذه الجملة هو أصل دين الإسلام. فيجوز أن يكون في الآية معنى ثان، أي إن كنتم في شك من معرفة هذا الدين فخلاصته أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكني أعبد الله وحده، فيكون في معنى قوله تعالىقل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون } الكافرون 1، 2 ثم قولهلكم دينكم ولي دين } الكافرون 6 فيتأتى في هذه الآية غرضان. فيكون المراد بالناس في قوله { قل يأيها الناس } جميع أمة الدعوة الذين لم يُسلموا. والذين يعبدونهم الأصنام. وعوملت الأصنام معاملة العقلاء فأطلق عليها اسم الموصول الذي لجماعة العقلاء مجاراة لما يعتقدونه فيها من العقل والتدبير. ونظير هذا في القرآن كثير. واختيار صلة التوفّي هنا في نعت اسم الجلالة لما فيها من الدلالة على كمال التصرف في المخلوق فإن المشركين لم يبلغ بهم الإشراك إلى ادعاء أن الأصنام تُحيي وتميت.

السابقالتالي
2