الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } * { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }

جاءت هذه الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لتكون أحوال المؤمنين مستقلة بالذكر غير تابعة في اللفظ لأحوال الكافرين، وهذا من طرق الاهتمام بالخبر. ومناسبة ذكرها مقابلة أحوال الذين يكذبون بلقاء الله بأضدادها تنويهاً بأهلها وإغاضة للكافرين. وتعريف المسند إليه بالموصولية هنا دون اللام للإيماء بالموصول إلى علة بناء الخبر وهي أن إيمانهم وعملهم هو سبب حصول مضمون الخبر لهم. والهداية الإرشاد على المقصد النافع والدلالة عليه. فمعنى { يهديهم ربهم } يرشدهم إلى ما فيه خيرهم. والمقصود الإرشاد التكويني، أي يخلق في نفوسهم المعرفة بالأعمال النافعة وتسهيل الإكثار منها. وأما الإرشاد الذي هو الدلالة بالقول والتعليم فالله يخاطب به المؤمنين والكافرين. والباء في { بإيمانهم } للسببية، بحيث إن الإيمان يكون سبباً في مضمون الخبر وهو الهداية فتكون الباء لتأكيد السببية المستفادة من التعريف بالموصولية نظير قولهإن الذين لا يرجون لقاءنا } يونس 7 إلىبما كانوا يكسبون } يونس 8 في تكوين هدايتهم إلى الخيرات بجعل الله تعالى، بأن يجعل الله للإيمان نُوراً يوضع في عقل المؤمن ولذلك النور أشعة نورانية تتصل بين نفس المؤمن وبين عوالم القدس فتكون سبباً مغناطيسياً لانفعال النفس بالتوجه إلى الخير والكمالِ لا يزال يزداد يوماً فيوماً، ولذلك يقترب من الإدراك الصحيح المحفوظ من الضلال بمقدار مراتب الإيمان والعمل الصالح. وفي الحديث " قد يكون في الأمم محدَّثون فإن يك في أمتي أحدٌ فعمر بن الخطاب " قال ابن وهب تفسير محدَّثون ملهمون الصواب، وفي الحديث " اتقوا فراسة المؤمن فإنه يَنظر بنور الله " ولأجل هذا النور كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيماناً لأنهم لما تلقوا الإيمان عن النبي صلى الله عليه وسلم كانت أنواره السارية في نفوسهم أقوى وأوسع. وفي العدول عن اسم الجلالة العَلَم إلى وصف الربوبية مضافاً إلى ضمير { الذين آمنوا } تنويه بشأن المؤمنين وشأن هدايتهم بأنها جعل مولًى لأوليائه فشأنها أن تكون عطية كاملة مشوبة برحمة وكرامة. والإتيان بالمضارع للدلالة على أن هذه الهداية لا تزال متكررة متجددة. وفي هذه الجملة ذكر تهيؤ نفوسهم في الدنيا لعُروج مراتب الكمال. وجملة { تجري من تحتها الأنهار في جنات النعيم } خبر ثان لِذكر ما يحصل لهم من النعيم في الآخرة بسبب هدايتهم الحاصلة لهم في الدنيا. وتقدم القول في نظيرتجري من تحتها الأنهار } في سورة البقرة 25. والمراد من تحت منازلهم. والجنات تقدم. والنعيم تقدم في قوله تعالىلهم فيها نعيم مقيم } في سورة براءة 21. وجملة { دعواهم فيها سبحانك اللهم } وما عطف عليها أحوال من ضمير { الذين آمنوا }. والدعوى هنا الدعاء. يقال دعوة بالهاء، ودعوَى بألف التأنيث. وسبحان مصدر بمعنى التسبيح، أي التنزيه.

السابقالتالي
2