الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ }

تقدم القول في الحروف الواقعة في فواتح بعض السور في أول سورة البقرة فهي بمنزلة الأعداد المسرودة، لا محل لها من الإعراب، ولا يُنطق بها إلا على حال السكت، وحالُ السكت يعامَل معاملة الوقف، فلذلك لا يُمد اسم رَا في الآية، وإن كان هو في اللغة بهمزة في آخره لأنه بالسكت تحذف الهمزة كما تحذف في الوقف لثقل السكوت على الهمزة في الوقف والسكت، فبذلك تصير الكلمة على حرفين فلا تمد. ولذلك أجمع القراء على عدم مد الحروف را.ها.يا.طا.حا. التي في أوائل السور وإن كانت تلك الأسماء ممدودة في استعمال اللغة. اسم الإشارة يجوز أن يكون مراداً به جميع آي القرآن التي نزلت قبل هذه السورة باعتبار حضور تلك الآيات في أذهان الناس من المؤمنين وغيرهم، فكأنها منظورة مشاهدة، فصحت الإشارة إليها إذ هي متلوة محفوظة فمن شاء أن يسمعها ويتدبرها أمكنه ذلك ولأن الخوض في شأنها هو حديث الناس في نواديهم وأسمارهم وشغلهم وجدالهم، فكانت بحيث تتبادر إلى الأذهان عند ورود الإشارة إليها. واسمُ الإشارة يُفسر المقصودَ منه خبرُه وهو { آيات الكتاب الحكيم } كما فسره في قوله تعالىفهذا يومُ البعث } الروم 56 وقوله تعالىقال هذا فراقُ بيني وبينك } الكهف 78. قال في «الكشاف» تصَوَّر فراقاً بينهما سيقع قريباً فأشار إليه بهذا. وقد تقدم شيء من هذا المعنى عند قوله تعالىذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده } في سورة الأنعام 88. فالمقصود من الإشارة إما الحث على النظر في آيات القرآن ليتبين لهم أنه من عند الله ويعلموا صدق من جاءهم به. وإما إقناعهم من الآيات الدالة على صدق النبي بآيات الكتاب الحكيم فإنهم يسألون النبي آيةً على صدقه، كما دل عليه قوله في هذه السورة يونس 15وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائتِ بقرآن غير هذا أو بَدله } فقيل لهم { تلك آيات الكتاب الحكيم } ، أي ما هو آية واحدة بل آيات كثيرة، فإن الإعجاز حاصل بكل سورة منه. ولأنه اشتمل على الحقائق السامية والهدى إلى الحق والحكمة فرجل أمي ينشأ في أمة جاهلة يجيء بمثل هذا الهدى والحكمة لا يكون إلا موحى إليه بوحي إلهي، كما دل عليه قوله تعالىوما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارْتاب المبطلون } العنكبوت 48. وعليه فاسم الإشارة مبتدأ و { آيات } خبره. وإضافة { آيات } إلى { الكتاب } إضافة شبيهة بالبيانية وإن كان الكتاب بمنزلة الظرف للآيات باختلاف الاعتبار، وهو معنى الإضافة البيانية عند التحقيق. ويجوز أن تجعل الإشارة بـ { تلك } إلى حروف { ألر } لأن المختار في الحروف المقطعة في فواتح السور أن المقصود من تعدادها التحدي بالإعجاز، فهي بمنزلة التهجي للمتعلم.

السابقالتالي
2