الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَـٰلَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }

{ قَالَ } استئناف على طرز سابقه { يَٰاقَوْمِ } ناداهم بإضافتهم إليه استمالة لهم نحو الحق { لَيْسَ بِى ضَلَـٰلَةٌ } نفي للضلال عن نفسه الكريمة على أبلغ وجه فإن التاء للمرة لأن مقام المبالغة في الجواب لقولهم الأحمق يقتضي ذلك والوحدة المستفادة منه باعتبار أقل ما ينطلق فيرجع حاصل المعنى ليس بـي أقل قليل من الضلال فضلاً عن الضلال المبين، وما يتخايل من أن نفي الماهية أبلغ فإن نفي الشيء مع قيد الوحدة قد يكون بانتفاء الوحدة إلى الكثرة مضمحل بما حقق أن الوحدة ليست صفة مقيدة بل اللفظ موضوع للجزء الأقل وهو الواحد المتحقق مع الكثرة ودونها على أن ملاحظة قيد الوحدة في العام في سياق النفي مدفوع، وكفاك لا رجل شاهداً فإنه موضوع للواحد من الجنس وبذلك فرق بينه وبين أسامة فإذا وقع عاماً لا يلحظ ذلك. ولو سلم جواز أن يقال ليس به ضلالة أي ضلالة واحدة بل ضلالات متنوعة ابتداء لكن لا يجوز في مقام المقابلة كما نحن فيه قاله في «الكشف» وبه يندفع ما أورد على «الكشاف» في هذا المقام. وفي «المثل السائر» الأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي تكون بينها وبين واحدها تاء التأنيث متى أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغ ومتى أريد الإثبات كان استعمالها أبلغ كما في هذه الآية، ولا يظن أنه لما كان الضلال والضلالة مصدرين من قولك: ضل يضل ضلالاً وضلالة كان القولان سواء لأن الضلالة هنا ليست عبارة عن / المصدر بل عن المرة والنفي كما علمت، وإنما بالغ عليه السلام في النفي لمبالغتهم في الإثبات حيث جعلوه وحاشاه مستقراً في الضلال الواضح كونه ضلالاً.

وقوله سبحانه وتعالى: { وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } استدراك على ما قبله رافع لما يتوهم منه، وذلك ـ على ما قيل ـ أن القوم لما أثبتوا له الضلال أرادوا به ترك دين الآباء ودعوى الرسالة فحين نفى الضلالة توهم منه أنه على دين آبائه وترك دعوى الرسالة فوقع الإخبار بأنه رسول وثابت على الصراط المستقيم استدراكاً لذلك، وقيل: هو استدراك مما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه في أقصى مراتب الهداية فإن رسالته من رب العالمين مستلزمة له لا محالة كأنه قيل وليس بـي شيء من الضلالة لكني في الغاية القاصية من الهداية، وحاصل ذلك ـ على ما قرره الطيبـي ـ أن لكن حقها أن تتوسط بين كلامين متغايرين نفياً وإثباتاً والتغاير هنا حاصل من حيث المعنى كما في قولك: جاءني زيد لكن عمراً غاب، وفائدة العدول عن الظاهر إرادة المبالغة في إثبات الهداية على أقصى ما يمكن كما نفى الضلالة كذلك، وسلك طريق الإطناب لأن هذا الاستدراك زيادة على الجواب إذ قوله: { لَيْسَ بِى ضَلَـٰلَةٌ } كان كافياً فيه فيكون من الأسلوب الحكيم الوارد على التخلص إلى الدعوة على وجه الترجيع المعنوي لأنه بدأ بالدعوة إلى إثبات التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى فلما أراد إثبات الرسالة لم يتمكن لما اعترضوا عليه من قولهم: { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } فانتهز الفرصة وأدمج مقصوده في الجواب على أحسن وجه حيث أخرجه مخرج الملاطفة والكلام المنصف يعني دعوا نسبة الضلال إلي وانظروا ما هو أهم لكم من متابعة ناصحكم وأمينكم ورسول رب العالمين ألا ترى أن صالحاً عليه السلام لما لم يعترضوا عليه عقب بإثبات الرسالة إثبات التوحيد؛ ففي هذه الآية خمسة من أنواع البديع فإذا اقتضى المقام هذا الإطناب كان الاقتصار على العبارة الموجزة تقصيراً انتهى.

السابقالتالي
2