الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ }

ثم إنه تعالى بعد أن بين التوحيد وأخبر أنه المتفرد بالخلق والأمر أمر عباده أن يدعوه مخلصين متذللين فقال عز من قائل: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ } الذي عرفتم شؤونه الجليلة، والمراد من الدعاء ـ كما قال غير واحد ـ السؤال والطلب وهو مخ العبادة لأن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب وأنه عاجز عن تحصيله وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء ويعلم الحاجة وهو قادر على إيصالها إليه. ولا شك أن معرفة العبد نفسه بالعجز والنقص ومعرفته ربه بالقدرة والكمال من أعظم العبادات. وقيل: المراد منه هنا العبادة لأنه عطف عليهوَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } [الأعراف: 56] والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه وفيه نظر، أما أولاً فلأن المغايرة تكفي باعتبار المتعلقات كما تقول ضربت زيداً وضربت عمراً. وأما ثانياً فلأنها لا تستدعي حمل الدعاء هنا على العبادة بل حمله على ذلك إما هناك أو هنا، وأما ثالثاً فلأنه خلاف التفسير المأثور كما ستعلمه إن شاء الله تعالى: { تَضَرُّعًا } أي ذوي تضرع أو متضرعين فنصبه على الحال من الفاعل بتقدير أو تأويل، وجوز نصبه على المصدرية وكذا الكلام فيما بعد. وهو من الضراعة وهي الذل والاستكانة يقال ضرع فلان لفلان إذا ذل له واستكان، وقال الزجاج التضرع التملق وهو قريب مما قالوا أي ادعوه تذللا، وقيل: التضرع مقابل الخفية واختاره أبو مسلم أي ادعوه علانية.

{ وَخُفْيَةً } أي سراً. أخرج ابن المبارك وابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن قال: لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أنه تعالى يقول: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وأنه سبحانه ذكر عبداً صالحاً فرضي له فعله فقال تعالى:إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً } [مريم: 3] وفي رواية عنه أنه قال: " بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً ". وجاء من حديث أبـي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال لقوم يجهرون: " أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيراً وهو معكم وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " والمعنى ارفقوا بأنفسكم واقصروا من الصياح في الدعاء. ومن هنا قال جمع بكراهة رفع الصوت به. وفي «الانتصاف» «حسبك في تعين الإسرار فيه اقترانه في الآية بالتضرع فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله تعالى [في الدعاء] وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى فكذلك دعاء لا خفية فيه ولا وقار يصحبه، وترى كثيراً من أهل زمانك يعتمدون الصراخ في الدعاء خصوصاً في الجوامع حتى يعظم اللغط ويشتد وتستك المسامع وتستد ولا يدرون أنهم جمعوا بين بدعتين رفع الصوت في الدعاء وكون ذلك في المسجد».

السابقالتالي
2