الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }

وقوله عزَّ شأنه: { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ } استئناف مقرر لما قبله منبئ عن الطبع على قلوبهم، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وقوله سبحانه وتعالى: { وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَـٰنِهِمْ } بالياء والرفع على الاستئناف أي وهو يذرهم، وقرأ غير واحد بنون العظمة على طريقة الالتفات أي ونحن نذرهم، وقرأ حمزة. والكسائي بالياء والجزم عطفاً على محل الجملة الاسمية الواقعة جواب الشرط كأنه قيل: من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم، ويحتمل أن يكون ذلك تسكيناً للتخفيف كما قرىءيُشْعِرُكُمْ } [الأنعام: 109] ويَنصُرُكُمْ } [الملك: 20] وقد روي الجزم مع النون عن / نافع وأبـي عمرو في الشواذ، وتخريجه على أحد الاحتمالين، وقوله تبارك وتعالى: { يَعْمَهُونَ } حال من مفعول { وَيَذَرُهُمْ } والعمه التردد في الضلال والتحير أو أن لا يعرف حجة، وإفراد الضمير في حيز النفي رعاية للفظ { مِنْ } وجمعه في حيز الإثبات رعاية لمعناها للتنصيص على شمول النفي والإثبات للكل كما قيل.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات:وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِى ءَاتَيْنَـٰهُ ءَايَـٰتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا } [الأعراف: 175] إشارة إلى من ابتلي بالحور بعد الكور بأن سلك حتى ظهر له ما ظهر ثم رجع من الطريق لسوء استعداده وغلبة الشقاوة والعياذ بالله تعالى عليه، وفي التعبير بانسلخ ما لا يخفى { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } إلى حظيرة القدس { وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ } أي مال إلى أرض الطبيعة السفلية { وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } في إيثار السوى { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ } في أخس أحواله { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ } بالزجر { يَلْهَثْ } يدلع لسانه مع التنفس الشديدأَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } [الأعراف: 176] أيضاً. والمراد أنه يلهث دائماً وكأنه إشارة إلى أن هذا المنسلخ لا يزال يطلق لسانه في أهل الكمال سواء زجر عن ذلك أو لم يزجر { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } وهم مظاهر القهر { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } الأسرار { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } الحجج الكونية { وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ } الآيات التنزيلية فهم صم بكم عمي { أُوْلَٰـئِكَ كَٱلأَنْعَـٰمِ } ليس لهم هم إلا الأكل والشرببَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الأعراف: 179] منها لأنهم لا ينزجرون إذا زجروا ولا يهتدون إذا أرشدوا. ومما يستبعد من طريق العقل ما نقله الإمام الشعراني عن شيخه علي الخواص قدس سره أن البهائم مكلفون محتجاً بقوله تعالى:وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَـٰلُكُمْ } [الأنعام: 38] مع قوله تعالى:وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [فاطر: 24] وبما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: " إنه ليؤخذ للشاة الجماء من الشاة القرناء " وهذا وإن كان في الشاة لكن لا قائل بالفرق، ونقل عنه القول بأن كل ما في الوجود من حيوان ونبات وجماد حي دراك، ثم قال: فقلت له فهل تشبيه الحق تعالى من ضل من عباده بالأنعام بيان لنقص الانعام عن الإنسان أم لكمالها في العلم بالله تعالى؟ فقال رضي الله تعالى عنه: لا أعلم، ولكني سمعت بعضهم يقول: ليس تشبيههم بالأنعام نقصاً وإنما هو لبيان كمال مرتبتها في العلم بالله عز وجل حتى حارت فيه فالتشبيه في الحقيقة واقع في الحيرة لا في المحار فيه فلا أشد حيرة من العلماء بالله تعالى، فأعلى ما يصل إليه العلماء في العلم بربهم سبحانه وتعالى مبتدأ البهائم الذي لم تنتقل عن أصله وإن كانت منتقلة في شؤونه بتنقل الشؤون الإلهية لأنها لا تثبت على حال، ولذلك كان من وصفهم سبحانه وتعالى من هؤلاء القوم أضل سبيلاً من الأنعام لأنهم يريدون الخروج من الحيرة من طريق فكرهم ونظرهم ولا يمكن لهم ذلك، والبهائم علمت ذلك ووقفت عنده ولم تطلب الخروج عنه لشدة علمها بالله تعالى، وذكر أنها ما سميت بهائم إلا لأن أمرا قد أبهم على غالب الخلق فلم يعرفوه كما عرفه أهل الكشف انتهى.

السابقالتالي
2 3