الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }

{ قَالَ } استئناف كنظائره { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي } الفاء لترتيب مضمون الجملة التي بعد على الإنظار، والباء إما للقسم أو للسببية، و (ما) على التقديرين مصدرية، والجار والمجرور متعلق بأقسم؛ وقيل: إنه على تقدير السببية متعلق بما بعد اللام، وفيه أن لها الصدر على الصحيح فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وجوز بعضهم كون (ما) استفهامية لم يحذف ألفها وأن الجار متعلق بأغويتني ولا يخفى ضعفه. والإغواء خلق الغي وأصل الغي الفساد ومنه غوى الفصيل وغوى إذا بشم وفسدت معدته، وجاء بمعنى الجهل من اعتقاد فاسد كما في قوله سبحانه:مَا ضَلَّ صَـٰحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ } [النجم: 2] وبمعنى الخيبة كما في قوله:
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره   ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
ومنه قوله تعالى:وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [طه: 121] واستعمل بمعنى العذاب مجازاً بعلاقة السببية ومنه قوله تعالى:فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [مريم: 59].

ولا مانع عند أهل السنة أن يراد بالإغواء هنا خلق الغي بمعنى الضلال أي بما أضللتني وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ونسبة الإغواء بهذا المعنى إلى الله عز وجل مما يقتضيه عموم قوله سبحانه:خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء } [الأنعام: 102] والمعتزلة يأبون نسبة مثل ذلك إليه سبحانه وقالوا في هذا تارة: إنه قول الشيطان فليس بحجة، وأولوه أخرى بأن الإغواء النسبة إلى الغي كأكفره إذا نسبه إلى الكفر أو إنه بمعنى إحداث سبب الغي وإيقاعه وهو الأمر بالسجود. وقال بعضهم: إن الغي هنا بمعنى الخيبة أي بما خيبته من رحمتك أو الهلاك أي بما أهلكته بلعنك إياه وطردك له، والذي دعاهم إلى هذا كله عدم قولهم بأن الله تعالى خالق كل شيء وأنه سبحان لا خالق غيره ولم يكفهم ذلك حتى طعنوا بأهل السنة القائلين بذلك. وما الظن بطائفة ترضى لنفسها من خفايا الشرك بما لم يسبق به إبليس عليه اللعنة نعوذ بالله سبحانه وتعالى من التعرض لسخطه. نعم الإغواء بمعنى الترغيب بما فيه الغواية والأمر به كما هو مراد اللعين من قوله:لأُغْوِيَنَّهُمْ } [صۤ: 82] مما لا يجوز من الله تعالى شأنه كما لا يخفى، ثم إن كانت الباء للقسم يكون المقسم به صفة من صفات الأفعال وهو مما يقسم به في العرف وإن لم تجر الفقهاء به أحكام اليمين. ولعل القسم وقع من اللعين بهما جميعاً فحكى تارة قسمه بأحدهما وأخرى بالآخر، وإن كانت سببية فالقسم بالعزة أي فبسبب إغوائك إياي لأجلهم أقسم بعزتك.

{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ } أي لآدم عليه السلام وذريته ترصداً بهم كما يقعد القطاع للسابلة { صِرٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } الموصل إلى الجنة وهو الحق الذي فيه رضاك. أخرج أحمد والنسائي وابن حبان والطبراني والبيهقي في «شعب الإيمان» عن سبرة بن الفاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

السابقالتالي
2