الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِيۤ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ }

{ وَٱكْتُبْ لَنَا } أي أثبت واقسم لنا { فِى هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا } التي عرانا فيها ما عرانا { حَسَنَةً } حياة طيبة وتوفيقا للطاعة. وقيل: ثناءاً جميلاً وليس بجميل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة { وَفِي ٱلأَخِرَةِ } أي واكتب لنا أيضاً في الآخرة حسنة وهي المثوبة الحسنى والجنة. قيل: إن هذا كالتأكيد لقوله: اغفر وارحم { إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ } أي تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع / وتاب كما قال:
إني امرىء مما جنيت هائد   
ومن كلام بعضهم:
يا راكب الذنب هدهد   واسجد كأنك هدهد
وقيل: معناه مال، وقرأ بن علي رضي الله تعالى عنهما { هدنا } بكسر الهاء من هاد يهيد إذا حرك، وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبـي وجرة السعدي أنه أنكر الضم وقال: والله لا أعلمه في كلام أحد من العرب وإنما هو هدنا بالكسر أي ملنا وهو محجوج بالتواتر، وجوز على هذه القراءة أن يكون الفعل مبنياً للفاعل والمفعول بمعنى حركنا أنفسنا أو حركنا غيرنا، وكذا على قراءة الجماعة، والبناء للمفعول عليها على لغة من يقول: عود المريض، ولا بأس بذلك إذا كان الهود بمعنى الميل سوى أن تلك لغة ضعيفة، وممن جوز الأمرين على القراءتين الزمخشري وتعقبه السمين بأنه متى حصل الالتباس وجب أن يؤتى بحركة تزيله فيقال: عقت إذا عاقك غيرك بالكسر فقط أو الإشمام إلا أن سيبويه جوز في نحو قيل الأوجه الثلاثة من غير احتراز، والجملة تعليل لطلب المغفرة والرحمة، وتصديرها بحرف التحقيق لإظهار كمال النشاط والرغبة في مضمونها { قَالَ } استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى له بعد دعائه؟ فقيل: قال { عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء } أي شأني أصيب بعذابي من أشاء تعذيبه من غير دخل لغيري فيه. وقرأ الحسن وعمرو الأسود { من أساء } بالسين المهملة ونسبت إلى زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وأنكر بعضهم صحتها.

{ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } أي شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في الدنيا بنعمتي، وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضى الذات وأما العذاب فمقتضى معاصي العباد، والمشيئة معتبرة في جانب الرحمة أيضاً، وعدم التصريح بها قيل: تعظيماً لأمر الرحمة، وقيل: للإشعار بغاية الظهور، ألا ترى إلى قوله تعالى: { فَسَأَكْتُبُهَا } فإنه متفرع على اعتبار المشيئة كما لا يخفى، كأنه قيل: فإذا كان الأمر كذلك أي كما ذكر من إصابة عذابـي وسعة رحمتي لكل من أشاء فسأثبتها إثباتاً خاصاً { لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي الكفر والمعاصي أما ابتداءً أو بعد الملابسة { وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـٰوةَ } المفروضة عليهم في أموالهم وقيل المعنى يطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والظاهر خلافه، وتخصيص إيتاء الزكاة بالذكر مع اقتضاء التقوى له للتعريض بقوم موسى عليه السلام لأن ذلك كان شاقا عليهم لمزيد حبهم للدنيا، ولعل الصلاة إنما لم تذكر مع إنافتها على سائر العبادات وكونها عماد الدين اكتفاءً منها بالاتقاء الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها وترك المنهيات عن آخرها { وَٱلَّذِينَ هُم بِـئَايَـٰتِنَا } كلها كما يفيده الجمع المضاف { يُؤْمِنُونَ } إيماناً مستمراً من غير إخلال بشيء منها، وتكرير الموصول مع أن المراد به عين ما أريد بالموصول الأول دون أن يقال ويؤمنون بآياتنا عطفاً على ما قبله كما سلك في سابقه قيل: لما أشير إليه من القصر بتقديم الجار والمجرور أي هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض، وفيه تعرض بمن آمن ببعض وكفر ببعض كقوم موسى عليه السلام.

السابقالتالي
2 3 4