الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

{ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي ظن بنو إسرائيل أن لا يصيبهم من الله تعالى بما فعلوا بلاء وعذاب لزعمهم ـ كما قال الزجاج ـ أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه أو لإمهال الله تعالى لهم أو لنحو ذلك، وعن مقاتل تفسير الفتنة بالشدة والقحط، والأولى حملها على العموم، وعلى التقديرين ليس المراد منها معناها المعروف. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب { أَن لا تَكُونُ } بالرفع على { أن } هي المخففة من الثقيلة، وأصله أنه لا تكون فخفف { أن } وحذف ضمير الشأن ـ وهو اسمها ـ وتعليق فعل الحسبان بها، وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته. و { أن } بما في حيزها سادّ مسد مفعوليه، وقيل: إن حسب هنا بمعنى علم، و { أن } لا تخفف إلا بعدما يفيد اليقين، وقيل: إن المفعول الثاني محذوف أي وحسبوا عدم الفتنة كائناً، ونقل ذلك عن الأخفش، و { تَكُونُ } على كل تقدير تامة.

وقوله تعالى: { فَعَمُواْ } عطف على { حَسِبُواْ } والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أمنوا بأس الله تعالى فتمادوا في فنون الغي والفساد وعموا عن الدين بعدما هداهم الرسل إلى معالمه وبينوا لهم مناهجه { وَصَمُّواْ } عن استماع الحق الذي ألقوه إليهم، وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرتي إفساد بني إسرائيل حين خالفوا أحكام التوراة وركبوا المحارم وقتلوا شعيا، وقيل: حبسوا أرميا عليهما السلام.

{ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه / من الفساد بعدما كانوا ببابل دهراً طويلاً تحت قهر بختنصر أسارى في غاية الذل والمهانة، فوجه الله عز وجل ملكاً عظيماً من ملوك فارس إلى بيت المقدس فعمره ورد من بقي من بني إسرائيل في أسر بختنصر إلى وطنهم وتراجع من تفرق منهم في الأكناف فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه، وقيل: لما ورث بهمن بن أسفنديار الملك من جده كستاسف ألقى الله تعالى في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام، وملك عليهم دانيال عليه السلام فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر فقامت فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال، وذلك قوله تعالى:ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } [الإسراء: 6] ولم يسند سبحانه التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم تجافياً عن التصريح بنسبة الخير إليهم، وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبة الله تعالى عليهم تمهيداً لبيان نقضهم إياها بقوله سبحانه: { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرتي إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيـى وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام، وجعل الزمخشري العمى والصمم أولاً: إشارة إلى ما صدر منهم من عبادة العجل، وثانياً: إشارة إلى ما وقع منهم من طلبهم الرؤية، وفيه أن عبادة العجل وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم لكنها في عصر موسى عليه السلام، ولا تعلق لها بما حكي عنهم بما فعلوا بالرسل الذين جاءوهم بعده عليه السلام بأعصار، وكذا القول ـ على زعمه ـ في طلب الرؤية على أن طلب الرؤية كان من القوم الذين مع موسى عليه السلام حين توجه للمناجاة، وعبادة العجل كانت من القوم المتخلفين فلا يتحقق تأخره عنها، وحمل { ثُمَّ } للتراخي الرتبـي دون الزماني مما لا ضرورة إليه، وقيل: إن العمى والصمم أولاً: إشارة إلى ما كان في زمن زكريا ويحيـى عليهما السلام، وثانياً: إشارة إلى ما كان في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم من الكفر والعصيان، وبدأ بالعمى لأنه أول ما يعرض للمعرض عن الشرائع فلا يبصر من أتى بها من عند الله تعالى ولا يلتفت إلى معجزاته، ثم لو أبصره لم يسمع كلامه فيكون عروض الصمم بعد عروض العمى، وقرىء { عَمُواْ وَصَمُّواْ } بالضم على تقدير عماهم الله تعالى وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما يقال: نزكته إذا ضربته بالنيزك، وركبته إذا ضربته بركبتك.

السابقالتالي
2