الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }

{ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ } إلى الثقلين كافة وهو نداء تشريف لأن الرسالة منة الله تعالى العظمى وكرامته الكبرى، وفي هذا العنوان إيذان أيضاً بما يوجب الإتيان بما أمر به صلى الله عليه وسلم من تبليغ ما أوحي إليه. { بَلَغَ } أي أوصل الخلق { مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } أي «جميع ما أنزل كائناً ما كان { مِن رَبّكَ } أي مالك أمرك ومبلغك إلى كمالك اللائق بك، وفيه عدة ضمنية بحفظه عليه الصلاة والسلام وكلاءته أي بلغه غير مراقب في ذلك أحداً ولا خائف أن ينالك مكروه أبداً { وَإن لَّمْ تَفْعَلْ } أي ما أمرت به من تبليغ الجميع. / { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي فما أديت شيئاً من رسالته لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض، فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها وكونها كذلك في حكم شيء واحد، والشيء الواحد لا يكون مبلغاً غير مبلغ، مؤمناً به غير مؤمن به»، ولأن كتمان بعضها يضيع ما أدى منها كترك بعض أركان الصلاة فإن غرض الدعوة ينتقض به، واعترض القول بنفي أولوية بعضها من بعض بالأداء بأن الأولوية ثابتة باعتبار الوجوب قطعاً وظناً وجلاءاً وخفاءاً أصلاً وفرعاً، وأجاب في «الكشف» بأنه نفي الأولوية نظراً إلى أصل الوجوب، وأيضاً إن ذلك راجع إلى المبلغ، والكلام في التبليغ وهو غير مختلف الوجوب لأنه شيء واحد نظراً إلى ذاته، ثم كتمان البعض يدل على أنه لم ينظر إلى أنه مأمور بالتبليغ بل إلى ما في المبلغ من المصلحة، فكأنه لم يمتثل هذا الأمر أصلاً فلم يبلغ، وإن أعلم الناس لم ينفعه لأنه مخبر إذ ذاك لا مبلغ، ونوقش في التعليل الثاني بأن الصلاة اعتبرها الشارع أمراً واحداً بخلاف التبليغ، وهي مناقشة غير واردة لأنه تعالى ألزمه عليه الصلاة والسلام تبليغ الجميع، فقد جعلها كالصلاة بلا ريب.

ومما ذكرنا في تفسير الشرطية يعلم أن لا اتحاد بين الشرط والجزاء، ومن ادّعاه بناءاً على أن المآل «إن لم تبلغ الرسالة لم تبلغ الرسالة ـ جعله نظير:
أنا أبو النجم وشعري شعري   
حيث جعل فيه الخبر عين المبتدأ بلا مزيد في اللفظ، وأراد ـ وشعري شعري ـ المشهور بلاغته والمستفيض فصاحته، ولكنه أخبر بالسكوت عن هذه الصفات التي بها تحصل الفائدة أنها من لوازم شعره في أفهام الناس السامعين لاشتهاره بها، وأنه غني عن ذكرها لشهرتها وذياعها، وكذلك ـ كما قال ابن المنير ـ أريد في الآية لأن عدم تبليغ الرسالة أمر معلوم عند الناس مستقر في الأفهام أنه عظيم شنيع ينقم على مرتكبه، ألا ترى أن عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع فكيف كتمان الرسالة من الرسول؟! فاستغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء للصوقها بالجزاء في الأفهام، وأن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد، وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عاماً حيث قال سبحانه: { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } ولم يقل: وإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة ليتغايرا لفظاً وإن اتحدا معنى، وهذا أحسن رونقاً وأظهر طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء، وهذه الذروة انحط عنها أبو النجم بذكر المبتدأ بلفظ الخبر، وحق له أن تتضاءل فصاحته عند فصاحة المعجز، فلا معاب عليه في ذلك، وقيل: إن المراد فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله، فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده ما أخرجه إسحاق بن راهويه في «مسنده» من حديث أبـي هريرة رضي الله تعالى عنه، وأخرجه أبو الشيخ وابن حبان في تفسيره من مرسل الحسن أن النبـي صلى الله عليه وسلم قال:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد