الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ }

{ قَالَ فَإِنَّهَا } فإن الفاء فيه لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء فكان ذلك إثر الدعاء ونوع من المدعو به، وقد أخرج ابن جرير عن السدي قال: إن موسى عليه السلام غضب حين قال له القوم ما قالوا فدعا ـ وكان ذلك عجلة منه عليه السلام عجلها ـ فلما ضرب عليهم التيه ندم فأوحى الله تعالى عليه { فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَـٰسِقِينَ } والضمير المنصوب عائد إلى الأرض المقدسة أي فإنها لدعائك { مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } لا يدخلونها ولا يملكونها، والتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد، ومثله قول امرىء القيس يصف فرسه:
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري   إني امرؤ صرعي عليك (حرام)
يريد إني فارس لا يمكنك أن تصرعيني، وجوز أبو علي الجبائي ـ وإليه يشير كلام البلخي ـ أن يكون تحريم تعبد والأول أظهر { أَرْبَعِينَ سَنَةً } متعلق ـ بمحرمة ـ فيكون التحريم مؤقتاً لا مؤبداً فلا يكون مخالفاً لظاهر قوله تعالى:كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ } [المائدة: 21] والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم هذه المدة لكن ـ لا ـ بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها، بل بعضهم ممن بقي حسبما روي أن موسى عليه السلام سار بمن بقي من بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة، وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض عليه السلام، وروى ذلك عن الحسن ومجاهد، وقيل: لم يدخلها أحد ممن قال:لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً } [المائدة: 24] وإنما دخلها مع موسى عليه السلام النواشي من ذرياتهم، وعليه فالمؤقت بالأربعين في الحقيقة تحريمها على ذرياتهم وإنما جعل تحريمها عليهم لما بينهما من العلاقة التامة.

وقوله تعالى: { يَتِيهُونَ فِى ٱلأَرْضِ } استئناف لبيان كيفية حرمانهم، وقيل: حال من ضمير { عَلَيْهِمْ } ، والتيه: الحيرة، ويقال: تاه يتيه ويتوه، وهو أتوه وأتيه، فهو مما تداخل فيه الواو والياء، والمعنى يسيرون متحيرين وحيرتهم عدم اهتدائهم للطريق. وقيل: الظرف متعلق { يَتِيهُونَ } ، وروى ذلك عن قتادة فكيون التيه مؤقتاً والتحريم مطلقاً يحتمل التأبيد وعدمه، وكان مسافة الأرض التي تاهوا فيها ثلاثين فرسخاً في عرض تسعة فراسخ كما قال مقاتل، وقيل: اثني عشر فرسخاً في عرض ستة فراسخ، وقيل: ستة في عرض تسعة، وقيل: كان طولها ثلاثين ميلاً في عرض ستة فراسخ وهي ما بين مصر والشام، وذكر أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتل وكانوا يسيرون فيصبحون حيث يمسون ويمسون حيث يصبحون ـ كما قاله الحسن. ومجاهد ـ قيل: وحكمة ابتلائهم بالتيه أنهم لما قالوا:إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ } [المائدة: 24] عوقبوا بما يشبه القعود، وكان أربعين سنة لأنها غاية زمن يرعوي فيه الجاهل. وقيل: لأنهم عبدوا العجل أربعين يوماً فجعل عقاب كل يوم سنة في التيه وليس بشيء، وكان ذلك من خوارق العادات إذ التحير في مثل تلك المسافة على عقلاء كثيرين هذه المدة الطويلة مما تحيله العادة، ولعل ذلك كان بمحو العلامات التي يستدل بها، أو بأن ألقي شبه بعضها على بعض.

السابقالتالي
2 3