الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }

{ فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـٰقَهُمْ } أي بسبب نقضهم ميثاقهم المؤكد لا بشيء آخر استقلالاً وانضماماً، فالباء سببية، و (ما) مزيدة لتوكيد الكلام وتمكينه في النفس، أو بمعنى شيء كما قال أبو البقاء، والجار متعلق بقوله تعالى: { لَّعَنَّٰهُم } أي طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا عقوبة لهم ـ قاله عطاء وجماعة ـ وعن الحسن ومقاتل أن المعنى مسخناهم قردة وخنازير، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عذبناهم بضرب الجزية عليهم، ولا يخفى أن ما قاله عطاء أقرب إلى المعنى الحقيقي لأن حقيقة اللعن في اللغة الطرد والابعاد فاستعماله في المعنيين الأخيرين مجاز باستعماله في لازم معناه، وهو الحقارة بما ذكر لكنه لا قرينة في الكلام عليه، وتخصيص البيان بما ذكر مع أن حقه أن يبين بعد بيان تحقق [نفس] اللعن والنقض بأن يقال مثلاً: فنقضوا ميثاقهم فلعناهم ضرورة تقدم هيئة الشيء البسيطة على هيئته المركبة ـ كما قال شيخ الإسلام ـ للإيذان بأن تحققهما أمر جلي غني عن البيان، وإنما المحتاج إلى ذلك ما بينهما من السببية والمسببية.

{ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَٰسِيَةً } يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تلين ـ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ. وقيل: المراد سلبناهم التوفيق واللطف الذي تنشرح به صدورهم حتى ـ ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ـ وهذا كما تقول لغيرك: أفسدت سيفك إذا ترك تعاهده حتى صدىء، وجعلت أظافيرك سلاحك إذا لم يقصها، وقال الجبائي المعنى: بينا عن حال قلوبهم وما هي عليه من القساوة وحكمنا بأنهم لا يؤمنون ولا تنفع فيهم موعظة، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وما دعا إليه إلا الاعتزال، وقرأ حمزة والكسائي (قسية)، وهي إما مبالغة قاسية لكونه على وزن فعيل، أو بمعنى ردية من قولهم: درهم قسى إذا كان مغشوشاً، وهو أيضاً من القسوة، فإن المغشوش فيه يبس وصلابة، وقيل: إن قسى غير عربي بل معرب، وقرىء، ـ قسية ـ بكسر القاف للاتباع.

{ يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم فإنه لا مرتبة أعظم مما ينشأ عنه الاجتراء على تحريف كلام رب العالمين والافتراء عليه عز وجل، والتعبير بالمضارع للحكاية واستحضار الصورة، وللدلالة على التجدد والاستمرار، وجوز أن يكون حالا من مفعول { لَعنَّـٰهُمْ } ، أو من المضاف إليه في قلوبهم وضعف بما ضعف، وجعله حالا من القلوب، أو من ضميره في { قَاسِيَةً } كما قيل، لا يصح لعدم العائد منه إلى ذي الحال، وجعل القلوب بمعنى أصحابها مما لا يلتفت إليه أصحابها { وَنَسُواْ حَظَّا } أي وتركوا نصيباً وافياً، واستعمال النسيان بهذا المعنى كثير { مّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ } من التوراة أو مما أمروا به فيها من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، / وقيل: حرفوا التوراة فسقطت بشؤم ذلك أشياء منها عن حفظهم، وأخرج ابن المبارك وأحمد في «الزهد» عن ابن مسعود قال: إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها، وفي معنى ذلك قول الشافعي رضي الله تعالى عنه:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9