الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }

{ وَلَقَدْ مَكَّنَّـٰهُمْ } أي قررنا عاداً وأقدرناهم. و { مَا } في قوله تعالى: { فِيمَا إِن مَّكَّنَّـٰهُمْ فِيهِ } موصولة أو موصوفة و { إِن } نافية أي في الذي أو في شيء ما مكناكم فيه من السعة والبسطة وطول الأعمار وسائر مبادي التصرفات كما في قوله تعالى:كَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّـٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ } [الأنعام: 6] ولم يكن النفي بلفظ { مَا } كراهة لتكرير اللفظ وإن اختلف المعنى، ولذا قال من ذهب إلى أن أصل مهما ماما على أن ما الشرطية مكررة للتأكيد قلبت الألف الأولى هاء فراراً من كراهة التكرار، وعابوا على المتنبـي قوله:
لعمرك ماما بان منك لضارب   بأقتل مما بان منك لعائب
أي ما الذي بان الخ، يريد لسانه لا يتقاعد عن سنانه، هذا للعائب وذلك للضارب، وكان يسعه أن يقول: إن مابان، وإدخال الباء للنفي لا للعمل على أن إعمال إن قد جاء عن المبرد، قيل: { إِن } شرطية محذوفة / الجواب والتقدير إن مكناكم فيه طغيتم، وقيل: إنها صلة بعد (ما) الموصولة تشبيهاً بما النافية و(ما) التوقيتية، فهي في الآية مثلها في قوله:
يرجى المرء ما ان لا يراه   وتعرض دون أدناه الخطوب
أي مكناهم في مثل الذي مكناكم فيه، وكونها نافية هو الوجه لأن القرآن العظيم يدل عليه في مواضع وهو أبلغ في التوبيخ وأدخل في الحث على الاعتبار.

{ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَـٰراً وَأَفْئِدَةً } ليستعملوها فيما خلقت له ويعرفوا بكل منها ما نيطت به معرفته من فنون النعم ويستدلوا بها على شؤون منعمها عز وجل ويداوموا على شكره جل شأنه.

{ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ } حيث لم يستعملوه في استماع الوحي ومواعظ الرسل { وَلاَ أَبْصَـٰرُهُمْ } حيث لم يجتلوا بها الآيات التكوينية المرسومة في صحائف العالم { وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ } حيث لم يستعملوها في معرفة الله تعالى { مِنْ شَيْء } أي شيئاً من الإغناء، و { مِنْ } مزيدة للتوكيد والتنوين للتقليل. وجوز أن تكون تبعيضية أي ما أغنى بعض الإغناء وهو القليل، و { مَا } في { مَا أَغْنَىٰ } نافية وجوز كونها استفهامية. وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم عليه زيادة { مِنْ } في الواجب وهو لا يجوز على الصحيح. ورد بأنهم قالوا: تزاد في غير الموجب وفسروه بالنفي والنهي والاستفهام. وإفراد السمع في النظم الجليل وجمع غيره لاتحاد المدرك به وهو الأصوات وتعدد مدركات غيره أو لأنه في الأصل مصدر، وأيضاً مسموعهم من الرسل متحد.

{ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } ظرف متعلق بالنفي الصريح أو الضمني في قوله تعالى: { مَا أَغْنَىٰ } وهو ظرف أريد به التعليل كناية أو مجازاً لاستواء مؤدى الظرف والتعليل في قولك: ضربته لإساءته وضربته إذ أساء لأنك إنما ضربته في ذلك الوقت لوجود الإساءة فيه، وهذا مما غلب في إذ وحيث من بين سائر الظروف حتى كاد يلحق بمعانيهما الوضعية.

{ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء ويقولون:فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِن ٱلصَّـٰدِقِينَ } [الأحقاف: 22].