الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ }

{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ } أي ما صح لفرد من أفراد البشر { أَن يُكَلّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآء } ظاهره حصر التكليم في ثلاثة أقسام. الأول: الوحي وهو المراد بقوله تعالى: { إِلاَّ وَحْياً } وفسره بعضهم بالإلقاء في القلب سواء كان في اليقظة أو في المنام والإلقاء أعم من الإلهام فإن إيحاء أم موسى إلهام وإيحاء إبراهيم عليه السلام إلقاء في المنام وليس إلهاماً وإيحاء الزبور إلقاء في اليقظة كما روي عن مجاهد وليس بإلهام؛ والفرق أن الإلهام لا يستدعي صورة كلام نفساني وقد فقد وأما اللفظي فلا، وأما نحو إيحاء الزبور فيستدعيه. وقد جاء إطلاق الوحي على الإلقاء في القلب في قول عبيد بن الأبرص:
وأوحى إليَّ الله أن قد تأمروا   بإبِل أبـي أَوْفَى فقمت على رجل
فإنه أراد قذف في قلبـي.

والثاني: إسماع الكلام من غير أن يبصر السامع من يكلمه كما كان لموسى وكذا / الملائكة الذين كلمهم الله تعالى في قضية خلق آدم عليه السلام ونحوهم وهو المراد بقوله سبحانه: { أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } فإنه تمثيل له سبحانه بحال الملك المتحجب الذي يكلم بعض خواصه من وراء حجاب يسمع صوته ولا يرى شخصه.

والثالث: إرسال الملك كالغالب من حال نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حال كثير من الأنبياء عليهم السلام، وَزَعْمُ أنه من خصوصيات أولي العزم من المرسلين غير صحيح وهو المراد بقوله عز وجل: { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } أي ملكاً { فَيُوحِيَ } ذلك الرسول إلى المرسل إليه الذي هو الرسول البشري { بِإِذْنِهِ } أي بأمره تعالى وتيسيره سبحانه: { مَا يَشَاء } أن يوحيه، وهذا يدل على أن المراد من الأول الوحي من الله تعالى بلا واسطة لأن إرسال الرسول جعل فيه إيحاء ذلك الرسول، وبنى المعتزلي على هذا الحصر أن الرؤية غير جائزة لأنها لو صحت لصح التكليم مشافهة فلم يصح الحصر، وقال بعض: المراد حصر التكليم في الوحي بالمعنى المشهور والتكليم من وراء حجاب وتكليم الرسل البشريين مع أممهم، واستبعد بأن العرف لم يطرد في تسمية ذلك إيحاء.

وقال القاضي إن قوله تعالى: { إِلاَّ وَحْياً } معناه إلا كلاماً خفياً يدرك بسرعة وليس في ذاته مركباً من حروف مقطعة وهو ما يعم المشافهة كما روي في حديث المعراج وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف به كما اتفق لموسى عليه السلام في الطور لكن عطف قوله تعالى: { أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } عليه يخصه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها. وإلى الأول ذهب الزمخشري وانتصر له صاحب «الكشف» عفا الله تعالى عنه فقال: وأما نحن فنقول والله تعالى أعلم: إن قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ } على التعميم يقتضي الحصر بوجه لا يخص التكلم بالأنبياء عليهم السلام ويدخل فيه خطاب مريم وما كان لأم موسى وما يقع للمحدثين من هذه الأمة وغيرهم فحمل الوحي على ما ذهب إليه الزمخشري أولى.

السابقالتالي
2 3 4 5