الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ }

{ وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ } أيُّ مصيبةٍ كانت من مصائب الدنيا كالمرض وسائر النكبات { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } أي فبسبب معاصيكم التي اكتسبتموها. و { مَا } اسم موصول مبتدأ والمبتدأ إذا كان موصولاً صلته جملة فعلية تدخل على خبره الفاء كثيراً لما فيه من معنى الشرط لإشعاره بابتناء الخبر عليه فلذا جىء بالفاء هنا.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر في رواية وشيبة { بِمَا } بغير فاء لأنها ليست بلازمة وإيقاع المبتدأ موصولاً يكفي في الإشعار المذكور، وحكي عن ابن مالك أنه قال: اختلاف القراءتين دل على أن (ما) موصولة فجىء تارة بالفاء في خبرها وأخرى لم يؤت بها حطاً للمشبه عن المشبه به، وجوز كون (ما) شرطية واستظهره أبو حيان في القراءة بالفاء وجعلها موصولة في القراءة الأخرى بناءً على أن حذف الفاء من جواب الشرط مخصوص بالشعر عند سيبويه نحو:
من يفعل الحسنات الله يشكرها   
والأخفش وبعض نحاة بغداد أجازوا ذلك مطلقاً، ومنه / قوله تعالى:وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [الأنعام: 121]. وقال أبو البقاء: حذف الفاء من الجواب حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي ويعلم منه مزيد حسن حذفها هنا على جعل (ما) موصولة.

{ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } أي من الذنوب فلا يعاقب عليها بمصيبة عاجلاً قيل وآجلاً. وجوز كون المراد بالكثير الكثير من الناس والظاهر الأول وهو الذي تشهد له الأخبار. روى الترمذي عن أبـي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يصيب عبداً نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله تعالى عنه أكثر وقرأ { وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ } " وأخرج ابن المنذر وجماعة عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية { وَمَا أَصَـٰبَكُمْ } الخ، قال عليه الصلاة والسلام " والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عز وجل عنه أكثر " ، وأخرج ابن سعد عن أبـي مليكة أن أسماء بنت أبـي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما كانت تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول بذنبـي وما يغفره الله تعالى أكثر، ورؤى على كف شريح قرحة فقيل: بم هذا؟ فقال: بما كسبت يدي، وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال: إن أحبه إليَّ أحبه إلى الله تعالى وهذا بما كسبت يدي.

والآية مخصوصة بأصحاب الذنوب من المسلمين وغيرهم فإن من لا ذنب له كالأنبياء عليهم السلام قد تصيبهم مصائب، ففي الحديث " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل " ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا، وأما الأطفال والمجانين فقيل غير داخلين في الخطاب لأنه للمكلفين وبفرض دخولهم أخرجهم التخصيص بأصحاب الذنوب فما يصيبهم من المصائب فهو لحكم خفية، وقيل: في مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر ثم إن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة، ويدل على ذلك ما رواه أحمد في «مسنده» والحيكم الترمذي وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } وسأفسرها لك يا علي ما أصابك من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فالله سبحانه أكرم من أن يعود بعد عفوه.

السابقالتالي
2