الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فَعِنْدَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }

{ يَٰـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } شروع في التحذير عما يوجب الندم من قتل من لا ينبغي قتله. { إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي سافرتم للغزو على ما يدل عليه السباق والسياق { فَتَبَيَّنُواْ } أي فاطلبوا بيان الأمر في كل ما تأتون وتذرون ولا (تعملوا) فيه من غير تدبر وروية، وقرأ حمزة وعلي وخلف ـ فتثبتوا ـ أي فاطلبوا ثبات الأمر ولا تعجلوا فيه، والمعنيان متقاربان، وصيغة التفعيل بمعنى الاستقبال، ودخلت الفاء لما في { إِذَا } من معنى الشرط كأنه قيل: إن غزوتم فتبينوا { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ } أي حياكم بتحية الإسلام ومقابلها تحية الجاهلية ـ كأنعم صباحاً وحياك الله تعالى ـ وقرأ حمزة وخلف وأهل الشام ـ السلم ـ بغير ألف، وفي بعض الروايات عن عاصم أنه قرأ ـ السلم ـ بكسر السين وفتح اللام، ومعناه في القرائتين الاستسلام والانقياد، وبه فسر بعضم { ٱلسَّلَـٰمَ } أيضاً في القراءة المشهورة، واللام على ما قال السمين: للتبليغ، والماضي بمعنى المضارع، و(من) موصولة أو موصوفة، والمراد النهي عما هو نتيجة لترك المأمور به، وتعيين مادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبيين والتثبيت، وتقييد ذلك بالسفر لأن عدم التبيين كان فيه لا لأنه لا يجب إلا فيه، والمعنى لا تقولوا لمن أظهر لكم ما يدل على إسلامه: { لَسْتَ مُؤْمِناً } وإنما فعلت ذلك خوف القتل بل اقبلوا منه ما أظهر وعاملوه بموجبه.

وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه ومحمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنهما وأبـي جعفر القاري أنهم قرؤوا { مُؤْمِناً } بفتح الميم الثانية أي مبذولاً لك الأمان.

{ تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } أي تطلبون ماله الذي هو حطام سريع الزوال وشيك الانتقال، والجملة في موضع الحال من فاعل { تَقُولُواْ } مشعراً بما هو الحامل لهم على العجلة، والنهي راجع إلى القيد والمقيد، وقوله تعالى: { فَعِنْدَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } تعليل للنهي عن القيد بما فيه من الوعد الضمني كأنه قيل: لا تبتغوا ذلك العرض القليل الزائل فإن عنده سبحانه وفي مقدوره مغانم كثيرة يغنمكموها فيغنيكم عن ذلك، وقوله سبحانه: { كَذٰلِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } تعليل للنهي عن المقيد باعتبار أن المراد منه ردّ إيمان الملقي لظنهم أن الإيمان العاصم ما ظهرت على صاحبه دلائل تواطىء الباطن والظاهر ولم تظهر فيه، واسم الإشارة إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فيه حيز الصلة، والفاء في { فَمَنْ } للعطف على { كُنتُمْ } وقدم خبرها للقصر المفيد لتأكيد المشابهة كأنه قيل: لا تردّوا إيمان من حياكم بتحية الإسلام وتقولوا إنه ليس بإيمان عاصم ولا يعد المتصف به مؤمناً معصوماً لظنكم اشتراط التواطؤ في العصمة ومجرد التحية لا يدل عليه، فإنكم كنتم أنتم في مبادىء إسلامكم مثل هذا الملقي في عدم ظهور شيء للناس منكم غير ما ظهر منه لكم من التحية ونحوها، ولم يظهر منكم ما تظنونه شرطاً مما يدل على التواطؤ، / ومجرد أن الدخول في الإسلام لم يكن تحت ظلال السيوف لا يدل على ذلك فمنّ الله تعالى عليكم بأن قبل ذلك منكم ولم يأمر بالفحص عن تواطؤ ألسنتكم وقلوبكم، وعصم بذلك دماءكم وأموالكم، فإذا كان الأمر كذلك { فَتَبَيَّنُواْ } هذا الأمر ولا تعجلوا وتدبروا ليظهر لكم أن ظاهر الحال كاف في الإيمان العاصم حيث كفى فيكم من قبل، وأخر هذا التعليل على ما قيل لما فيه من نوع تفصيل ربما يخلّ تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم مع ما فيه من مراعاة المقارنة بين التعليل السابق وبين ما علل به، أو لأن في تقديم الأول إشارة ما إلى ميل القوم نحو ذلك العرض، وأن سرورهم به أقوى، ففي تقديمه تعجيل لمسرتهم، وفيه نوع حط عليهم ـ رفع الله تعالى قدرهم ورضي المولى عز شأنه عنهم ـ أو لأنه أوضح في التعليل من التعليل الأخير وأسبق للذهن منه، ولعله لم يعطف أحد التعليلين على الآخر لئلا يتوهم أنهما تعليلا شيء واحد أو أن مجموعهما علة، وقيل: موافقة لما علل بهما من القيد والمقيد حيث لم يتمايزا بالعطف، وقيل: إنما لم يعطف لأن الأول تعليل للنهي الثاني بالوعد بأمر أخروي لأن المعنى لا تبتغوا عرض الحياة الدنيا لأن عنده سبحانه ثواباً كثيراً في الآخرة أعده لمن لم يبتغ ذلك، وعبر عن الثواب ـ بالمغانم ـ مناسبة للمقام، والتعليل الثاني للنهي الأول ليس كذلك، وذكر الزمخشري وغيره في الآية ما رده شيخ الإسلام بما يلوح عليه مخايل التحقيق، وقال بعض الناس فيها: إن المعنى كما كان هذا الذي قتلتموه مستخفياً بدينه في قومه خوفاً على نفسه منهم كنتم أنتم مستخفين بدينكم حذراً من قومكم على أنفسكم، فمنّ الله تعالى عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله حتى أظهرتم الإسلام بعدما كنتم تكتمونه من أهل الشرك فتبينوا نعمة الله تعالى عليكم، أو تبينوا أمر من تقتلونه، ولا يخفى أن هذا ـ وإن كان بعضه مروياً عن ابن جبير ـ غير واف بالمقصود على أن القول بأن المخاطبين كانوا مستخفين بدينهم حذراً من قومهم في حيز المنع اللهم إلا أن يقال: إن كون البعض كان مستخفياً كاف في الخطاب، وقيل: إن قوله سبحانه: { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } منقطع عما قبله، وذلك أنه تعالى لما نهى القوم عن قتل من ذكر أخبرهم بعد بأنه منّ عليهم بأن قبل توبتهم عن ذلك الفعل المنكر، ثم أعاد الأمر بالتبيين مبالغة في التحذير، أو أمر بتبيين نعمته سبحانه شكراً لما منّ عليهم به ـ وهو كما ترى ـ.

السابقالتالي
2 3 4