الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }

{ فَلاَ وَرَبّكَ } أي ـ فوربك ـ و (لا) مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد النفي في جوابه أعني قوله تعالى: { لاَ يُؤْمِنُونَ } لأنها تزاد في الإثبات أيضاً كقوله تعالى:فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوٰقِعِ ٱلنُّجُومِ } [الواقعة: 75] وهذا ما اختاره الزمخشري ومتابعوه في (لا) التي تذكر قبل القسم، وقيل: إنها رد لمقدر أي لا يكون الأمر كما زعمتم واختاره الطبرسي، وقيل: مزيدة لتأكيد النفي في الجواب ولتأكيد القسم إن لم يكن نفي، وقال ابن المنير: ((الظاهر عندي أنها هٰهنا لتوطئة النفي المقسم عليه، والزمخشري لم يذكر مانعاً من ذلك سوى مجيئها لغير هذا المعنى في الإثبات وهو لا يأبـى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة على أنها لم ترد في القرآن إلا مع صريح فعل القسم ومع القسم بغير الله تعالى مثللاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } [البلد: 1]لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } [القيامة: 1]فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلشَّفَقِ } [الانشقاق: 16] قصداً إلى تأكيد القسم / وتعظيم المقسم به إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له فكأنه بدخولها يقول إن إعظامي لهذه الأشياء بالقسم بها ـ كلا إعظام ـ يعني أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك، وهو لا يحسن في القسم بالله تعالى إذ لا توهم ليزاح، ولم تسمع زيادتها مع القسم بالله إلا إذا كان الجواب منفياً فدل ذلك على أنها معه زائدة موطئة للنفي الواقع في الجواب، ولا تكاد تجدها في غير الكتاب العزيز داخلة على قسم مثبت وإنما كثر دخولها على القسم وجوابه نفي كقوله:
(فلا وأبيك) ابنة العامري   (لا يدعي) القوم أني أفر
وقوله:
ألا نادت أمامة بارتحال   لتحزنني (فلا بك) ما أبالي
وقوله:
رأى برقا فأوضع فوق بكر   (فلا بك ما أسال ولا أغاما)
إلى ما لا يحصى كثرة، ومن هذا يعلم الفرق بين المقامين؛ والجواب عن قولهم: إنه لا فرق بينهما فتأمل ذلك فهو حقيق بالتأمل)).

{ حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ } أي يجعلوك حكماً أو حاكماً، وقال شيخ الإسلام: «يتحاكموا إليك ويترافعوا، وإنما جيء بصيغة التحكيم مع أنه صلى الله عليه وسلم حاكم بأمر الله إيذاناً بأن اللائق بهم أن يجعلوه عليه الصلاة والسلام حكماً فيما بينهم ويرضوا بحكمه وإن قطع النظر عن كونه حاكماً على الإطلاق» { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أي فيما اختلف بينهم من الأمور واختلط، ومنه الشجر لتداخل أغصانه، وقيل: للمنازعة تشاجر لأن المتنازعين تختلف أقوالهم وتتعارض دعاويهم ويختلط بعضهم ببعض { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ } عطف على مقدر ينساق إليه الكلام أي فتحكم بينهم ثم لا يجدوا { فِى أَنفُسِهِمْ } وقلوبهم { حَرَجاً } أي شكاً ـ كما قاله مجاهد ـ أو ضيقاً ـ كما قاله الجبائي ـ أو إثماً ـ كما روي عن الضحاك ـ واختار بعض المحققين تفسيره بضيق الصدر لشائبة الكراهة والإباء لما أن بعض الكفرة كانوا يستيقنون الآيات بلا شك ولكن يجحدون ظلماً وعتواً فلا يكونوا مؤمنين، وما روي عن الضحاك يمكن إرجاعه إلى أيّ الأمرين شئت ونفي وجْدَان الحرج أبلغ من نفي الحرج كما لا يخفى، وهو مفعول به ـ ليجدوا ـ والظرف قيل: حال منه أو متعلق بما عنده، وقوله تعالى: { مّمَّا قَضَيْتَ } متعلق بمحذوف وقع صفة لحرجاً، وجوز أبو البقاء تعلقه به، و (ما) يحتمل أن تكون موصولة ونكرة موصوفة ومصدرية أي من الذي قضيته أي قضيت به أو من شيء قضيت أو من قضائك.

السابقالتالي
2