الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً }

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } كلام مستأنف مقرر لما قبله من الوعيد ومؤكد وجوب امتثال الأمر بالإيمان حيث إنه لا مغفرة بدونه كما زعم اليهود، وأشار إليه قوله تعالى:فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } [الأعراف: 169] وفيه أيضاً إزالة خوفهم من سوء الكبائر السابقة إذا آمنوا. والشرك يكون بمعنى اعتقاد أن لله تعالى شأنه شريكاً إما في الألوهية أو في الربوبية، وبمعنى الكفر مطلقاً ـ وهو المراد هنا ـ كما أشار إليه ابن عباس فيدخل فيه كفر اليهود دخولاً أولياً فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبة وقضى بخلود أصناف الكفرة كيف كانوا، ونزول الآية في حق اليهود على ما روي عن مقاتل لا يقتضي الاختصاص بكفرهم بل يكفي الاندراج فيما يقتضيه عموم اللفظ، والمشهور أنها نزلت مطلقة، فقد أخرج ابن المنذر عن أبـي مجلز قال: «لما نزل قوله تعالى:قُلْ يٰعِبَادِى ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } [الزمر: 53] الآية قام النبـي صلى الله عليه وسلم على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال: والشرك بالله؟ فسكت، ثم قام إليه فقال: يا رسول الله والشرك بالله تعالى؟ فسكت مرتين أو ثلاثاً فنزلت هذه الآية: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } » الخ والمعنى أن الله تعالى لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة وإيمان لأنه سبحانه بت الحكم على خلود عذابه، وحكمه لا يتغير، ولأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر ولذا لم يبعث نبـي إلا لسده وجواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدي إلى فتحه، وقيل: لأن ذنبه لا ينمحي عنه أثره فلا يستعد للعفو بخلاف غيره، ولا يخفى أن هذا مبني على أن فعل الله تعالى تابع لاستعداد المحل، وإليه ذهب أكثر الصوفية وجميع الفلاسفة، فإن { يُشْرَكَ } في موضع / النصب على المفعولية؛ وقيل: المفعول محذوف والمعنى لا يغفر من أجل أن يشرك به شيئاً من الذنوب فيفيد عدم غفران الشرك من باب أولى، والذي عليه المحققون هو الأول.

{ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } عطف على خبر (إن) لا مستأنف، وذلك إشارة إلى الشرك، وفيه إيذان ببعد درجته في القبح أي يغفر ما دونه من المعاصي وإن عظمت وكانت كرمل عالج، ولم يتب عنها تفضلاً من لدنه وإحساناً { لِمَن يَشَاء } أن يغفر له ممن اتصف بما ذكر فقط، فالجار متعلق ـ بيغفر ـ المثبت، والآية ظاهرة في التفرقة بين الشرك وما دونه بأن الله تعالى لا يغفر الأول البتة ويغفر الثاني لمن يشاء، والجماعة يقولون بذلك عند عدم التوبة فحملوا الآية عليه بقرينة الآيات والأحاديث الدالة على قبول التوبة فيهما جميعاً، ومغفرتهما عندها بلا خلاف من أحد، وذهب المعتزلة إلى أنه لا فرق بين الشرك وما دونه من الكبائر في أنهما يغفران بالتوبة ولا يغفران بدونها فحملوا الآية كما قيل: على معنى ـ إن الله لا يغفر الإشراك لمن يشاء أن لا يغفر له وهو غير التائب ويغفر ما دونه لمن يشاء أن يغفر له وهو التائب ـ وجعلوا { لِمَن يَشَاء } متعلقاً بالفعلين وقيدوا المنفي بما قيد به المثبت على قاعدة التنازع لكن { مَن يَشَآء } في الأول: المصرون بالاتفاق، وفي الثاني: التائبون قضاءاً لحق التقابل وليس هذا من استعمال اللفظ الواحد في معنيين متضادين لأن المذكور إنما تعلق بالثاني وقدر في الأول مثله والمعنى واحد لكن يقدر مفعول المشيئة في الأول: عدم الغفران، وفي الثاني: الغفران بقرينة سبق الذكر، ولايخفى أن كون هذا من التنازع مع اختلاف متعلق المشيئة مما لا يكاد يتفوه به فاضل ولا يرتضيه كامل على أنه لا جهة لتخصيص كل من القيدين بما خصص لأن الشرك أيضاً يغفر للتائب وما دونه لا يغفر للمصر عندهم من غير فرق بينهما، وسوق الآية ينادي بالتفرقة وتقييد مغفرة { مَا دُونَ ذَلِكَ } بالتوبة مما لا دليل عليه إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى من آيات الوعد.

السابقالتالي
2 3 4