الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً }

{ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } خطاب لكافة المكلفين إثر بيان بطلان ما عليه الكفرة من فنون الكفر والضلال وإلزامهم [بالبراهين القاطعة] بما تخرّ له صم الجبال، وفيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل ولا عذر لمعتذر { قَدْ جَاءكُمُ } أتاكم ووصل إليكم { بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ } أي حجة قاطعة، والمراد بها المعجزات على ما قيل. وأخرج ابن عساكر عن سفيان الثوري عن أبيه عن رجل لا يحفظ اسمه أن المراد بالبرهان هو النبـي صلى الله عليه وسلم، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعبر عنه عليه الصلاة والسلام بذلك لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد بذلك دين الحق الذي جاء به النبـي صلى الله عليه وسلم، والتنوين للتفخيم، و ـ من ـ لابتداء الغاية مجازاً وهي متعلقة ـ بجاء ـ أو بمحذوف وقع صفة مشرفة ـ لبرهان ـ مؤكدة لما أفاده التنوين، وجوز أن تكون تبعيضية بحذف المضاف أي كائن من براهين ربكم، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإفاضة إلى ضمير المخاطبين لإظهار اللطف بهم والإيذان بأن مجىء ذلك لتربيتهم وتكميلهم. { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ } بواسطة النبـي صلى الله عليه وسلم، وفي عدم ذكر الواسطة إظهار لكمال اللطف بهم ومبالغة في الإعذار { نُوراً مُّبِيناً } وهو القرآن ـ كما قاله قتادة ومجاهد والسدي ـ واحتمال إرادة الكتب السابقة الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم بعيد غاية البعد، وإذا كان المراد من البرهان القرآن أيضاً فقد سلك / به مسلك العطف المبني على تغاير الطرفين تنزيلاً للمغايرة العنوانية منزلة المغايرة الذاتية، وإطلاق البرهان عليه لأنه أقوى دليل على صدق من جاء به، وإطلاق النور المبين لأنه بَينٌ بنفسه مستغن في ثبوت حقيته وكونه من الله تعالى بإعجازه غير محتاج إلى غيره، مبين لغيره من حقية الحق وبطلان الباطل، مهدي للخلق بإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وعبر عن ملابسته للمخاطبين تارة بالمجىء المسند إليه المنبىء عن كمال قوته في البرهانية كأنه يجىء بنفسه فيثبت ما ثبت من غير أن يجىء به أحد، ويجىء على شبه الكفرة بالإبطال والأخرى بالإنزال الموقع عليه الملائم لحيثية كونه نوراً توقيراً له باعتبار كل واحد من عنوانيه حظه اللائق به، وإسناد إنزاله إليه تعالى بطريق الالتفات لكمال تشريفه ـ قاله مولانا شيخ الإسلام ـ والأمر على غير ذلك التقدير هين.