الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ }

{ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً } جماعات مرتبة حسب ترتب طبقاتهم في الفضل، وفي «صحيح مسلم» وغيره عن أبـي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة ثم هم بعد ذلك منازل " والمراد بالسوق هنا الحث على المسير للإسراع إلى الإكرام بخلافه فيما تقدم فإنه لإهانة الكفرة وتعجيلهم إلى العقاب والآلام واختير للمشاكلة، وقوله سبحانه: { إِلَى ٱلّجَنَّةِ } يدفع إيهام الإهانة مع أنه قد يقال: إنهم لما أحبوا لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءهم فلذا حثوا على دخول دار كرامته جل شأنه قاله بعض الأجلة.

واختار الزمخشري أن المراد هنا بسوقهم سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين، وهذا السوق والحث أيضاً للإسراع بهم إلى دار الكرامة. وتعقب بأنه لا قرينة على إرادة ذلك وكون جميع المتقين لا يذهب بهم إلا راكبين يحتاج إلى دليل، والاستدلال بقوله تعالى:يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } [مريم: 85] لا يتم إلا على القول بأن الوفد لا يكونون إلا ركباناً وأن الركوب يستمر لهم إلى أن يدخلوا الجنة، وفي «الكشف» أنه تفسير ظاهر يؤيده الأحاديث الكثيرة ويناسب المقام لأن السوقين بعد فصل القضاء واللطف الخالص في شأن البعض والقهر الخالص في شأن البعض ولا ينافي مقام عظمة مالك الملوك على ما توهم انتهى.

وأقول: إنْ حُمِلَ { ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } على المخلصين فالقول بركوبهم قول قوي وإنْ حُمِلَ على المحترز عن الشرك خاصة ليشمل المخلصين فالقول بذلك قول ضعيف إذ منهم من لا يدخل الجنة إلا بعد أن يدخل النار ويعذب فيها، وظاهر كثير من الأخبار أن من هذا الصنف من يذهب إلى الجنة مشياً. ففي «صحيح مسلم» عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو أخرى وتسفعه النار مرة فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله تعالى شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين فترفع له شجرة فيقول: أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها فأشرب من مائها فيقول الله تعالى: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها فيقول: لا يا رب ويعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه " الحديث.

وقال بعض العارفين: إن المتقين يساقون إلى الجنة لأنهم قد رأوا الله تعالى في المحشر فلرغبتهم في رؤيته عز وجل ثانياً لا يحبون فراق ذلك الموطن الذي رأوه فيه ولشدة حبهم وشغفهم لا يكاد يخطر لهم أنهم سيرونه سبحانه إذا دخلوا الجنة، والمحبة إذا عظمت فعلت بصاحبها أعظم من ذلك وأعظم فكأنها غلبتهم حتى خيلت إليهم أن ذلك الموطن هو الموطن الذي يرى فيه عز وجل وهو محل تجليه على محبيه جل جلاله وعظم نواله فأحجموا عن المسير ووقفوا منتظرين رؤية اللطيف الخبير وغداً لسان حال كل منهم يقول:

السابقالتالي
2 3