الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }

{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } هو القرآن الكريم، وكونه حديثاً بمعنى كونه كلاماً محدثاً به لا بمعنى كونه مقابلاً للقديم، ومن قال بالتلازم من الأشاعرة القائلين بحدوث الكلام اللفظي جعل الأوصاف الدالة على الحدوث لذلك الكلام، وجوز أن يكون إطلاق الحديث هنا على القرآن من باب المشاكلة. عن ابن عباس أن قوماً من الصحابة قالوا: يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر فنزلت، وعن ابن مسعود أن الصحابة ملوا ملة فقالوا له عليه الصلاة والسلام حدثنا فنزلت أي إرشاداً لهم إلى ما يزيل مللهم وهو تلاوة القرآن واستماعه منه صلى الله عليه وسلم غضاً طرياً. وفي إيقاع اسم الله تعالى مبتدأ وبناء { نَزَّلَ } عليه تفخيم لأحسن الحديث واستشهاد على أحسنيته وتأكيد لاستناده إلى الله عز وجل وأن مثله لا يمكن أن يتكلم به غيره سبحانه، أما التفخيم فلأنه من باب الخليفة عند فلان، وأما الاستشهاد على أحسنيته فلكونه ممن لا يتصور أكمل منه بل لا كمال لشيء ما في جنبه بوجه، وأما توكيد الاستناد إليه تعالى فمن التقوى، وأما أن مثله لا يمكن أن يتكلم به غيره سبحانه فلمكان التناسب لأن أكمل الحديث إنما يكون من أكمل متكلم ضرورة، ومذهب الزمخشري أن مثل هذا التركيب يفيد الحصر وأنه لا تنافي بينه وبين التقوى جمعاً فافهم.

{ كِتَـٰباً } بدل من { أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } أو حال منه كما قال الزمخشري، وليس مبنياً على القول بأن إضافة أفعل التفضيل تفيده تعريفاً كما ظن أبو حيان فإن مطلق الإضافة كافية في صحة الحالية كما لا يخفى على من له أدنى إلمام بالعربية. ووقوعه حالاً مع كونه اسماً لا صفة إما لوصفه بقوله تعالى: { مُّتَشَـٰبِهاً } أو لكونه في قوة مكتوباً. والمراد بكونه متشابهاً هنا تشابه معانيه في الصحة والإحكام والابتناء على الحق والصدق واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش وتناسب ألفاظه في الفصاحة وتجاوب نظمه في الإعجاز، وما أشبه هذا بقول العرب في الوجه الكامل حسناً وجه متناصف كأن بعضه أنصف بعضاً في القسط من الجمال.

وقوله تعالى: { مَّثَانِيَ } صفة أخرى لكتاباً أو حال أخرى منه. وهو جمع مثنى بضم الميم وفتح النون المشددة على خلاف القياس إذ قياسه مثنيات بمعنى مردد ومكرر لما كرر وثنى من أحكامه ومواعظه وقصصه، وقيل: لأنه يثنى في التلاوة. وجوز أن يكون جمع مثنى بالفتح مخففاً من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما كان قوله تعالى:ثُمَّ ٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [الملك: 4] بمعنى كرة بعد كرة وكذلك «لبيك وسعديك»، والمراد أنه جمع لمعنى التكرير والإعادة كما ثنى ما ذكر لذلك لكن استعمال المثنى في هذا المعنى أكثر لأنه أول مراتب التكرار، ويحتمل أن يراد أن مثنى بمعنى التكرير والإعادة كما أن صريح المثنى كذلك في نحو { كَرَّتَيْنِ } ثم جمع للمبالغة، وقيل: جمع مثنية لاشتماله آياته على الثناء على الله تعالى أو لأنها تثني ببلاغتها وإعجازها على المتكلم بها، ولا يخفى أن رعاية المناسبة مع { مُّتَشَـٰبِهاً } تجعل ذلك مرجوحاً وأنه حسن إذا حمل على الثناء باعتبار الإعجاز.

السابقالتالي
2 3