الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }

{ وَجَعَلْنَا } عطف علىجَعَلْنَا } [يس: 8] السابق { مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } من قدامهم { سَدّا } عظيماً وقيل نوعاً من السد { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } من ورائهم { سَدّا } كذلك والقدام والوراء كناية عن جميع الجهات { فَأغْشَيْنَـٰهُمْ } فغطينا بما جعلناه من السد أبصارهم، وعن مجاهد { فَأغْشَيْنَـٰهُمْ } فألبسنا أبصارهم غشاوة { فَهُمُ } بسبب ذلك { لاَّ يُبْصِرُونَ } لا يقدرون على إبصار شيء ما أصلاً.

وقرأ جمع من السبعة وغيرهم { سَدّا } بضم السين وهي لغة فيه، وقيل ما كان من عمل الناس فهو بالفتح وما كان من خلق الله تعالى فهو بالضم، وقيل بالعكس وقرأ ابن عباس وعمر بن عبد العزيز وابن يعمر وعكرمة والنخعي وابن سيرين والحسن وأبو رجاء وزيد بن علي وأبو حنيفة ويزيد البربري ويزيد بن المهلب وابن مقسم { فأغشيانهم } بالعين من العشا وهو ضعف البصر، ومجموع المتعاطفين من قوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا } الخ تأكيد وتقرير لما دل عليه قوله سبحانه:لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ } [يس: 7] الخ من / سوء اختيارهم وقبح حالهم فإن جعل الله تعالى إياهم بما أظهر فيهم من الإعجاب العظيم بأنفسهم مستكبرين عن اتباع الرسل عليهم السلام شامخين برؤوسهم غير خاضعين لما جاؤوا به وسد أبواب النظر فيما ينفعهم عليهم بالكلية ليس إلا لأنهم سيئو الاختيار وقبيحو الأحوال قد عشقت ذواتهم ما هم عليه عشقاً ذاتياً وطلبته طلباً استعدادياً فلم تكن لها قابلية لغيره ولم تلتفت إلى ما سواه، وإذا قايست بين ذواتهم وما هم عليه وبين الجسم والحيز أو الثلاثة والفردية مثلاً لم تكد تجد فرقاًوَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [النحل: 33] ففي الكلام تشبيهات متعددة كما لوحنا إليه، وهذا الوجه هو الذي يقتضيه ما عليه كثير من الأجلة وإن لم يذكروه في الآية؛ وفي «الانتصاف» إذا فرق التشبيه كان تصميمهم على الكفر مشبهاً بالأغلال وكان استكبارهم عن قبول الحق والتواضع لاستماعه مشبهاً بالإقماح لأن المقمح لا يطأطأ رأسه، وقوله تعالى:فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَـٰنِ } [يس: 8] تتمة للزوم الإقماح لهم وكان عدم النظر في أحوال الأمم الخالية مشبهاً بسد من خلفهم وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبهاً بسد من قدامهم وفي «التيسير» جمع الأيدي إلى الأذقان بالأغلال عبارة عن منع التوفيق حتى استكبروا عن الحق لأن المتكبر يوصف برفع العنق والمتواضع بضده كما في قوله تعالى:فَظَلَّتْ أَعْنَـٰقُهُمْ لَهَا خَـٰضِعِينَ } [الشعراء: 4] ولم يذكر المراد بجعل السد، وذكر الإمام أن المانع عن النظر في الآيات قسمان قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبه ذلك بالغل الذي يجعل صاحبه مقمحاً لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه وقسم يمنع عن النظر في الآفاق فشبه ذلك بالسد المحيط فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق فلا يظهر له ما فيها من الآيات فمن ابتلي بهما حرم عن النظر بالكلية.

السابقالتالي
2