الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ }

{ وَٱللَّهُ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَاحَ } مبتدأ وخبر، وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير { ٱلرّيحَ } وصيغة المضارع في قوله تعالى: { فَتُثِيرُ سَحَابًا } لحكاية الحال الماضية استحضاراً لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة وكثيراً ما يفعلون ذلك بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غير ذلك، ومنه قول تأبط شراً:
ألا من مبلغ فتيان فهم   بما لاقيت عند رحى بطان
بأني قد رأيت الغول تهوي   بسهب كالصحيفة صحصحان
فقلت لها كلانا نضو أرض   أخو سفر فخلي لي مكاني
فشدت شدة نحوي فأهوت   لها كفي بمصقول يماني
فأضربها بلا دهش فخرت   صريعاً لليدين وللجران
ولأن الإثارة خاصية للرياح وأثر لا ينفك في الغالب عنها فلا يوجد إلا بعد إيجادها فيكون مستقبلاً بالنسبة إلى الإرسال، وعلى هذا يكون استعمال المضارع على ظاهره وحقيقته من غير تأويل لأن المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم، والفاء دالة على عدم تراخي ذلك وهو شيء آخر، وجوز أن يكون الإتيان بما يدل على الماضي ثم بما يدل على المستقبل إشارة إلى استمرار الأمر وأنه لا يختص بزمان دون زمان إذ لا يصح المضي والاستقبال في شيء واحد إلا إذا قصد ذلك.

وقال الإمام: اختلاف الفعلين لأنه لما أسند فعل الإرسال إلى الله تعالى وما يفعل سبحانه يكون بقوله عز وجل:كُن } [يس: 82] فلا يبقى في العدم زماناً ولا جزء زمان جىء بلفظ الماضي دون المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان ولأنه تعالى فرغ من كل شيء فهو سبحانه قدر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة والتقدير كالإرسال ولما أسند فعل الإثارة إلى الرياح وهي تؤلف في زمان قال سبحانه: { تُثِيرُ } بلفظ المستقبل اهـ. وأورد عليه قوله تعالى: في سورة الروم [48]ٱللَّهُ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرّيَـٰحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً } وفي سورة الأعراف [57]وَهُوَ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } حيث جىء في الإرسال فيها بالمضارع فتأمل.

{ فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيّتٍ } قطعة من الأرض لا نبات فيها. وقرىء { ميت } بالتخفيف وهما بمعنى واحد في المشهور. / وفي «كليات أبـي البقاء الكفوي»: الميت بالتخفيف هو الذي مات والميت بالتشديد والمائت هو الذي لم يمت بعد، وأنشد:
ومن يك ذا روح فذلك ميت   وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
والمعول عليه هو المشهور { فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ } أي بالمطر النازل منه المدلول عليه بالسحاب فإن بينهما تلازماً في الذهن كما في الخارج أو بالسحاب فإنه سبب السبب وإحياء الأرض إِنبات الشجر والكلأ فيها { بَعْدَ مَوْتِهَا } يبسها وخلوها عن ذلك، وإيراد الفعلين بصيغة الماضي للدلالة على التحقيق، وإسنادهما إلى نون العظمة المنبـىء عن الاختصاص به تعالى لما فيهما من مزيد الصنع ولتكميل المماثلة بين إحياء الأرض وبين البعث الذي شبه به بقوله تعالى: { كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ } في كمال الاختصاص بالقدرة الربانية، وقال الإمام عليه الرحمة: أسند { أُرْسِلَ } إلى الغائب وساق { وأحيـى } إلى المتكلم لأنه في الأول عرف سبحانه نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ثم لما عرف قال تعالى: أنا الذي عرفتني سقت السحاب وأحييت الأرض ففي الأول كان تعريفاً بالفعل العجيب وفي الثاني كان تذكيراً بالنعمة فإن كمال نعمتي الرياح والسحب بالسوق والإحياء، وهو كما ترى.

السابقالتالي
2 3