الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ }

{ إِن ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } أي على كفرهم. { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء ٱلأَْرْضِ } من مشرقها إلى مغربها { ذَهَبًا } نصب على التمييز، وقرأ الأعمش ـ ذهب ـ بالرفع، وخرج على البدلية من { مّلْء } أو عطف البيان، أو الخبر لمحذوف، وقيل عليه: إنه لا بد من تقدير وصف ليحسن البدل ولا دلالة عليه ولم يعهد بيان المعرفة بالنكرة، وجعله خبراً إنما يحسن إذا جعلت الجملة صفة، أو حالاً ولا يخلو عن ضعف، وملء الشيء بالكسر مقدار ما يملؤه، وأما مَلء بالفتح فهو مصدر ملأه ملأ، وأما الملاءة بالضم والمد فهي الملحفة.

وهٰهنا سؤال مشهور وهو أنه لم دخلت الفاء في خبر { إِنَّ } هنا ولم تدخل في الآية السابقة مع أن الآيتين سواء في صحة إدخال الفاء لتصور السببية ظاهراً؟ وأجاب غير واحد بأن الصلة في الآية الأولى الكفر وازدياده وذلك لا يترتب عليه عدم قبول التوبة بل إنما يترتب على/ الموت عليه إذ لو وقعت على ما ينبغي لقبلت بخلاف الموت على الكفرة في هذه الآية فإنه يترتب عليه ذلك ولذلك لو قال: من جاءني له درهم كان إقراراً بخلاف ما لو قرنه بالفاء ـ كما هو معروف بين الفقهاء ـ ولا يرد أن ترتب الحكم على الوصف دليل على السببية لأنا لا نسلم لزومه لأن التعبير بالموصول قد يكون لأغراض كالإيماء إلى تحقق الخبر كقوله:
إن التي ضربت بيتاً مهاجرة   بكوفة الجند غالت دونها غول
وقد فصل ذلك في المعاني؛ وقرىء ـ فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ـ على البناء للفاعل وهو الله تعالى ونصب ـ ملء وملء الأرض ـ بتخفيف الهمزتين.

{ وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ } قال ابن المنير في «الانتصاف»: إن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطاً آخر تعطف عليه الشرط المقترنة به ضرورة والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبهاً على المسكوت عنه بطريق الأولى مثاله قولك: أكرم زيداً ولو أساء فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره ـ أكرم زيداً لو أحسن ولو أساء ـ إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى؛ ومنهكُونُواْ قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } [النساء: 135] فإن معناه ـ والله تعالى أعلم ـ لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم فأوجبه تنبيهاً على أن ما كان أسهل أولى بالوجوب، ولما كانت هذه الآية مخالفة لهذا النمط من الاستعمال لأن قوله سبحانه: { وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ } يقتضي شرطاً آخر محذوفاً يكون هذا المذكور منبهاً عليه بطريق الأولى، والحالة المذكورة أعني حالة افتدائهم ـ بملء الأرض ذهباً ـ هي أجدر الحالات بقبول الفدية، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها ـ خاض المفسرون بتأويلها ـ فذكر الزمخشري ثلاثة أوجه حاصل الأول: أن عدم قبول ـ ملء الأرض ـ كناية عن عدم قبول فدية مّا لدلالة السياق على أن القبول يراد للخلاص وإنما عدل تصويراً للتكثير لأنه الغاية التي لا مطمح وراءها في العرف، وفي الضمير يراد { مّلْء ٱلأَْرْضِ } على الحقيقة فيصير المعنى لا تقبل منه فدية ولو افتدى ـ بملء الأرض ذهباً ـ ففي الأول نظر إلى العموم وسده مسد فدية ما، وفي الثاني إلى الحقيقة أو لكثرة المبالغة من غير نظر إلى القيام مقامها، وحاصل الثاني: أن المراد ولو افتدى بمثله معه كما صرح به في آية أخرى ولأنه علم أن الأول فدية أيضاً كأنه قيل: لا يقبل ملء الأرض فدية ولو ضوعف، ويرجع هذا إلى جعل الباء بمعنى مع، وتقدير مثل بعده أي مع مثله، وحاصل الثالث: أنه يقدر وصف يعينه المساق من نحو كان متصدقاً به، وحينئذ لا يكون الشرط المذكور من قبل ما يقصد به تأكيد الحكم السابق بل يكون شرطاً محذوف الجواب ويكون المعنى لا يقبل منه ـ ملء الأرض ذهباً لو تصدق ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه ـ وضمير { بِهِ } للمال من غير اعتبار وصف التصدق فالكلام من قبيل

السابقالتالي
2 3 4 5