الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ }

{ قَالَ رَبّ ٱجْعَل لِّى ءايَةً } أي علامة تدلني على العلوق وإنما سألها استعجالاً للسرور قاله الحسن، وقيل ليتلقى تلك النعمة بالشكر [من] حين حصولها ولا يؤخر حتى تظهر ظهوراً معتاداً، ولعل هذا هو الأنسب بحال أمثاله عليه السلام، وقول السدي: إنه سأل الآية ـ ليتحقق أن تلك البشارة منه تعالى لا من الشيطان ـ ليس بشيء كما أشرنا إليه آنفاً، والجعل إما بمعنى التصيير فيتعدى إلى مفعولين أولهما: { ءايَةً } ، وثانيهما: { لِى } والتقديم لأنه المسوغ لكون { ءايَةً } مبتدأ عند الانحلال، وإما بمعنى الخلق والإيجاد فيتعدى إلى مفعول واحد وهو { ءايَةً } و { لِى } حينئذ في محل نصب على الحال من { ءايَةً } لأنه لو تأخر عنها كان صفة لها، وصفة النكرة إذا تقدمت عليها أعربت حالا منها كما تقدمت الإشارة إليه غير مرة ـ ويجوز أن يكون متعلقاً بما عنده وتقديمه للاعتناء به والتشويق لما بعده.

{ قَالَ ءايَتُكَ أَلاَّ تُكَلّمَ ٱلنَّاسَ } أي أن لا تقدر على تكليمهم من غير آفة وهو الأنسب بكونه آية والأوفق لما في سورة مريم، وأخرج ابن جرير وابن أبـي حاتم عن جبير بن معتمر قال: ربا لسانه في فيه حتى ملأه فمنعه الكلام، والآية فيه عدم منعه من الذكر والتسبيح، وعلى كلا التقديرين عدم التكليم اضطراري، وقال أبو مسلم: إنه اختياري، والمعنى ـ آيتك أن تصير مأموراً بعدم التكلم إلا بالذكر والتسبيح ـ ولا يخفى بعده هنا، وعليه وعلى القولين قبله يحتمل أن يراد من عدم التكليم ظاهره فقط وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون كناية عن الصيام لأنهم كانوا إذ ذاك إذا صاموا لم يكلموا أحداً ـ وإلى ذلك ذهب عطاء ـ وهو خلاف الظاهر، ومع هذا يتوقف قبوله على توقيف، وإنما خص تكليم الناس للإشارة إلى أنه غير ممنوع من التكلم بذكر الله تعالى.

{ ثَلَـٰثَةَ أَيَّامٍ } أي متوالية، وقال بعضهم المراد ثلاثة أيام ولياليها، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي ليالي ثلاثة أيام لقوله سبحانه في سورة [مريم: 10]ثَلَـٰثَ لَيَالٍ } والحق أن الآية كانت عدم التكليم ستة أفراد إلا أنه اقتصر تارة على ذكر ثلاثة أيام منها وأخرى على ثلاث ليال وجعل ما لم يذكر في كل تبعاً لما ذكر، قيل: وإنما قدم التعبير بالأيام لأن يوم كل ليلة/ قبلها في حساب الناس يومئذ، وكونه بعدها إنما هو عند العرب خاصة كما تقدمت الإشارة إليه، واعترض بأن ـ آية الليالي ـ متقدمة نزولاً لأن السورة التي هي فيها مكية والسورة التي فيها ـ آية الأيام ـ مدنية، وعليه يكون أول ظهور هذه الآية ليلاً ويكون اليوم تبعاً لليلة التي قبلها على ما يقتضيه حساب العرب فتدبر فالبحث محتاج إلى تحرير بعد، وإنما جعل عقل اللسان آية العلوق لتخلص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاءاً لحق النعمة كأنه قيل له: آية حصول النعمة أن تمنع عن الكلام إلا بشكرها، وأحسن الجواب على ما قيل ما أخذ من السؤال كما قيل لأبـي تمام لم تقول ما لا نفهم؟ فقال: لم لا نفهم ما يقال؟ وهذا مبني على أن سؤال الآية منه عليه السلام إنما كان لتلقي النعمة بالشكر، ولعل دلالة كلامه على ذلك بواسطة المقام وإلا ففي ذلك خفاء كما لا يخفى.

السابقالتالي
2 3 4 5