الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ }

{ قَالَتْ } أي بعد ما ذهب الهدهد بالكتاب فألقاه إليهم وتنحى عنهم حسبما أمر به، وإنما طوى ذكره إيذاناً بكمال مسارعته إلى إقامة ما أمر به من الخدمة وإشعاراً بالاستغناء عن التصريح به لغاية ظهوره. روي أنه عليه السلام كتب كتابه وطبعه بالمسك وختمه بخاتمه ودفعه إلى الهدهد فذهب به فوجدها راقدة في قصرها بمأرب وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية، وفي رواية بين ثدييها، وقيل: نقرها فانتبهت فزعة، وقيل: أتاها والقادة والجنود حواليها فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت رأسها فألقى الكتاب في حجرها فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت فقالت ما قالت، وقيل: كانت في البيت كوة تقع الشمس منها كل يوم فإذا نظرت إليها سجدت فجاء الهدهد فسدها بجناحيه فرأت ذلك وقامت إليه فألقى الكتاب إليها وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل يعرب بن قحطان واشتهر أنها من نسل تبع الحميري وكان الخط العربـي في غاية الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة وهو المسمى بالخط الحميري وكان بحمير كتابة تسمى المسند حروفها منفصلة وكانوا يمنعون من تعليمها إلا بإذنهم ومن حمير تعلم مضر، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك. واختار ابن خلدون القول بأنه تعلم الكتابة العربية من التبابعة وحمير أهل الحيرة وتعلمها منهم أهل الحجاز وظاهر كون بلقيس من العرب وأنها قرأت الكتاب يقتضي أن الكتاب كان عربياً، ولعل سليمان عليه السلام كان يعرف العربـي وإن لم يكن من العرب، ومن علم منطق الطير لا يبعد أن يعلم منطق العرب الذي هو أشرف منطق. ويحتمل أن يكون عنده من يعرف ذلك وكذا من يعرف غيره من اللغات كعادة الملوك يكون عندهم من يتكلم بعدة لغات ليترجم لهم ما يحتاجونه، ويجوز أن يكون الكتاب غير عربـي بل بلغة سليمان عليه السلام وقلمه وكان قلمه كما نقل عن الإمام أحمد البوني كاهنياً وكان عند بلقيس من ترجمه لها وأعلمها بما فيه فجمعت أشراف قومها وأخبرتهم بذلك واستشارتهم كما حكى سبحانه عنها بقوله جل وعلا قالت:

{ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } الخ، وأقدم سليمان عليه السلام على كتابة الكتاب إليها كذلك قول الهدهدوَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء } [النمل: 23] والمترجم من الأشياء التي يحتاج إليها الملك وأن اللائق بشأنه وعظمته أن لا يترك لسانه ويتشبه بها في لسانها، ويحتمل أنها كانت بنفسها تعرف تلك الكتابة فقرأت الكتاب لذلك، ورجح احتمال أن يكون الكتاب غير عربـي بأن الكتابة لها بالعربية تستدعي الوقوف على حالها وهو عليه السلام ما وقف عليه بعد.

السابقالتالي
2