الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ }

{ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } الظاهر أن الضمير للهدهد و { بَعِيدٍ } صفة زمان والكلام بيان لمقدر كأنه قيل: ما مضى من غيبته بعد التهديد؟ فقيل: مكث غير بعيد أي مكث زماناً غير مديد، ووصف زمان مكثه بذلك للدلالة على إسراعه خوفاً من سليمان عليه السلام وليعلم كيف كان الطير مسخراً له، وقيل: الضمير لسليمان وهو كما ترى، وقيل: { بَعِيدٍ } صفة مكان أي فمكث الهدهد في مكان غير بعيد من سليمان، وجعله صفة الزمان أولى، ويحكى أنه حين نزل سليمان عليه السلام حلق الهدهد فرأى هدهداً واسمه فيما قيل عفير واقعاً فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء وذكر له صاحبه ملك بلقيس، وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما لم يره دعا عريف الطير وهو النسر فسأله فلم يجد عنده علمه ثم قال لسيد الطير وهو العقاب: على به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فناشدها الله تعالى وقال: بحق الله الذي قواك وأقدرك عليَّ إلا رحمتني فتركته وقالت: ثكلتك أمك إن نبـي الله تعالى قد حلف ليعذبنك أو ليذبحنك قال: وما استثنى؟ قالت: بلى قال:أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ } [النمل: 21] فقال: نجوت إذا فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعاً له فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه فقال: يا نبـي الله تعالى اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل فارتعد سليمان وعفا عنه - وعن عكرمة أنه إنما عفا لأنه كان باراً بأبويه يأتيهما بالطعام فيزقهما لكبرهما - ثم سأله:

{ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } أي علماً ومعرفة وحفظته من جميع جهاته، وابتداء كلامه بذلك لترويجه عنده عليه السلام وترغيبه في الإصغاء إلى اعتذاره واستمالة قلبه نحو قبوله فإن النفس للاعتذار المنبىء عن أمر بديع أقبل وإلى تلقي ما لا تعلمه أميل، وأيد ذلك بقوله: { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } حيث فسر إبهامه السابق نوع تفسير وأراد عليه السلام أنه كان بصدد إقامة خدمة مهمة له حيث عبر عما جاء به بالنبأ الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير ووصفه بما وصفه، وقال الزمخشري: إن الله تعالى ألهم الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه وتنبيهاً على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به لتتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه ويكون لطفاً له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة انتهى.

السابقالتالي
2 3