الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً }

{ وَهُوَ ٱلَّذِى مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ } أي أرسلهما في مجاريهما كما يرسل الخيل في المرج كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ويقال في هذا أمرج أيضاً على ما قيل إلا أن مرج لغة الحجاز وأمرج لغة نجد. وأصل المرج كما قال الراغب: الخلط، ويقال: مرج أمرهم أي اختلط، وسمي المرعى مرجاً لاختلاط النبات فيه، والمراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكثير الملح من غير تخصيص ببحرين معينين، وهذا رجوع إلى ما تقدم من ذكر الأدلة.

وقوله تعالى: { هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } الخ أي شديد العذوبة ووزنه فعال من فرته وهو مقلوب من رفته إذا كسره لأنه يكسر سورة العطش ويقمعها، وقيل؛ هو البارد كما في «مجمع البيان» إما استئناف أو حال بتقدير القول أي يقال فيهما هذا عذب فرات { وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } وقيل: هي حال من / غير تقدير قول على معنى مرج البحرين مختلفين عذوبة شديدة وملوحة كذلك، واسم الإشارة غني غناء الضمير، والأجاج شديد الملوحة كما أشرنا إليه أطلق عليه لأن شربه يزيد أجيج العطش، وقال الراغب: هو شديد الملوحة والحرارة من أجيج النار انتهى، وقيل: هو المر وحكاه الطبرسي عن قتادة، وقيل الحار فهو يقابل الفرات عند من فسره بالبارد.

وقرأ طلحة بن مصرف وقتيبة عن الكسائي { ملح } بفتح الميم وكسر اللام هنا وكذا في فاطر [12]، قال أبو حاتم: وهذا منكر في القراءة، وقال أبو الفتح: أراد مالحاً فخفف بحذف الألف كما قيل برد في بارد في قوله:
أصبح قلبـي صردا   لا يشتهي أن يردا
إلا عرادا عردا   وصلينا بردا
وعكنا ملتبدا   
وقيل: مخفف مليح لأنه ورد بمعنى مالح، وقال أبو الفضل الرازي في كتاب «اللوامح»: هي لغة شاذة قليلة فليس مخففاً من شيء، نعم هو كملح في قراءة الجمهور بمعنى مالح، والأفصح أن يقال في وصف الماء: ماء ملح دون ماء مالح وإن كان صحيحاً كما نقل الأزهري ذلك عن الكسائي، وقد اعترف أيضا بصحته ثعلب، وقال الخفاجي: الصحيح أنه مسموع من العرب كما أثبته أهل اللغة وأنشدوا لإثباته شواهد كثيرة وعليه فمن خطأ الإمام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه بقوله: ماء مالح فقد أخطأ جاهلاً بقدر هذا الإمام.

{ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } أي حاجزاً وهو لفظ عربـي، وقيل: أصله برزه فعرب، والمراد بهذا الحاجز كما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبـي حاتم عن الحسن ما يحول بينهما من الأرض كالأرض الحائلة بين دجلة ويقال لها بحر لعظمها ولشيوع إطلاق البحر على النهر العظيم صار حقيقة فيه أيضاً فلا إشكال في التثنية، وإن أبيت صيرورته حقيقة فاعتبار التغليب يرفع الإشكال وبين البحر الكبير، والمراد حيلولتها في مجاريها وإلا فهي تنتهي إلى البحر وكذا سائر الأنهار العظام، ودلالة هذا الجعل على كمال قدرته عز وجل كونه على خلاف مقتضى الطبيعة فإن مقتضى طبيعة الماء أن يكون متضام الأجزاء مجتمعاً غامراً للأرض محيطاً بها من جميع جهاتها إحاطة الهواء به ومقتضى طبيعة الأرض أن تكون متضامة الأجزاء أيضاً لا غور فيها ولا نجد مغمورة بالماء واقعة في جوفه كمركز الدائرة كما قرر ذلك الفلاسفة وذكروا في سبب انكشاف ما انكشف من الأرض ووقوع الأغوار والأنجاد فيها ما لا يخلو عن قيل وقال، و { بَيْنَهُمَا } ظرف الجعل، ويجوز أن يكون حالاً من { بَرْزَخاً } ، والظاهر أن تنوين { بَرْزَخاً } للتعظيم أي وجعل بينهما برزخاً عظيماً حيث إنه على كثرة مرور الدهور لا يتخلله ماء أحد البحرين حتى يصل إلى الآخر فيغير طعمه.

السابقالتالي
2 3