الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً }

أي تعالى جل شأنه في ذاته وصفاته وأفعاله على أتم وجه وأبلغه كما يشعر به إسناد صيغة التفاعل إليه تعالى وهذا الفعل لا يسند في الأغلب إلى غيره تعالى ومثله ـ تعالى ـ ولا يتصرف فلا يجىء منه مضارع ولا أمر ولا ولا في الأغلب أيضاً وإلا فقد قرأ أبـي كما سيأتي إن شاء الله تعالى تباركت الأرض ومن حولها، وجاء كما في «الكشف» تباركت النخلة أي تعالت، وحكى الأصمعي أن أعرابياً صعد رابية فقال لأصحابه: تباركت عليكم، وقال الشاعر:
إلى الجذع جذع النخلة المتبارك   
وقال الخليل: معنى تبارك تمجد، وقال الضحاك: تعظم وهو قريب من قريب، وعن الحسن والنخعي أن المعنى تزايد خيره وعطاؤه وتكاثر وهي إحدى روايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ثانيتهما أن المعنى لم يزل، ولا يزال وتحقيق ذلك أن تبارك من البركة وهي في الأصل مأخوذة من برك البعير وهو صدره ومنه برك البعير إذا ألقى بركه على الأرض واعتبر فيه معنى اللزوم فقيل براكاء الحرب وبروكاؤها للمكان الذي يلزمه الابطال وسمي محبس الماء بركة كسدرة ثم أطلقت على ثبوت الخير الإلٰهي في الشيء ثبوت الماء في البركة، وقيل: لما فيه ذلك الخير مبارك ولما كان الخير الإلٰهي يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة؛ فمن اعتبر معنى اللزوم كابن عباس بناءً على الرواية الثانية عنه قال: المعنى لم يزل ولا يزال أو نحو ذلك، ومن اعتبر معنى التزايد انقسم إلى طائفتين فطائفة جعلوه باعتبار كمال الذات في نفسها ونقصان ما سواها ففسروا ذلك / بالتعالي ونحوه وطائفة جعلوه باعتبار كمال الفعل ففسروه بتزايد الخير وتكاثره ولا اعتبار للتغير المبني على اعتبار معنى اللزوم لقلة فائدة الكلام عليه وعدم مناسبة ذلك المعنى لما بعد، ومن هنا ردد الجمهور المعنى بين ما ذكرناه أولاً وما روي عن الحسن ومن معه؛ وترتيب وصفه تعالى بقوله سبحانه: { تَبَـٰرَكَ } بالمعنى الأول على إنزاله جل شأنه الفرقان لما أنه ناطق بعلو شأنه سبحانه وسمو صفاته وابتناء أفعاله على أساس الحكم والمصالح وخلوها عن شائبة الخلل بالكلية وترتيب ذلك بالمعنى الثاني عليه لما فيه من الخير الكثير لأنه هداية ورحمة للعالمين، وفيه ما ينتظم به أمر المعاش والمعاد وكلا المعنيين مناسب للمقام ورجح الأول بأنه أنسب به لمكان قوله تعالى: { لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِيراً } فقد قال الطيبـي في اختصاص النذير دون البشير سلوك طريقة براعة الاستهلال والإيذان بأن هذه السورة مشتملة على ذكر المعاندين المتخذين لله تعالى ولداً وشريكاً الطاعنين في كتبه ورسله واليوم الآخر، وهذا المعنى يؤيد تأويل تبارك بتزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله جل وعلا لإفادته صفة الجلال والهيبة وإيذانه من أول الأمر بتعاليه سبحانه عما يقول الظالمون علواً كبيراً وهو من الحسن بمكان.

السابقالتالي
2 3