{ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً } أي دماً جامداً وذلك بإفاضة أعراض الدم عليها / فتصيرها دماً بحسب الوصف، وهذا من باب الحركة في الكيف { فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً } أي قطعة لحم بقدر ما يمضغ لا استبانة ولا تمايز فيها، وهذا التصيير على ما قيل بحسب الذات كتصيير الماء حجراً وبالعكس، وحقيقته إزالة الصورة الأولى عن المادة وإفاضة صورة أخرى عليها وهو من باب الكون والفساد ولا يخلو ذلك من الحركة في الكيفية الاستعدادية فإن استعداد الماء مثلاً للصورة الأولى الفاسدة يأخذ في الانتقاص واستعداده للصورة الثانية الكائنة يأخذ في الاشتداد ولا يزال الأول ينقص والثاني يشتد إلى أن تنتهي المادة إلى حيث تزول عنها الصورة الأولى فتحدث فيها الثانية دفعة فتتوارد هذه الاستعدادات التي هي من مقولة الكيف على موضوع واحد. { فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ } غالبها ومعظمها أو كلها { عِظَـٰماً } صغاراً وعظاماً حسبما تقتضيه الحكمة وذلك التصيير بالتصليب لما يراد جعله عظاماً من المضغة؛ وهذا أيضاً تصيير بحسب الوصف فيكون من الباب الأول. وفي كلام العلامة البيضاوي إشارة ما إلى مجموع ما ذكرنا وهو يستلزم القول بأن النطفة والعلقة متحدان في الحقيقة وإنما الاختلاف بالأعراض كالحمرة والبياض مثلاً وكذا المضغة والعظام متحدان في الحقيقة وإنما الاختلاف بنحو الرخاوة والصلابة وأن العلقة والمضغة مختلفان في الحقيقة كما أنهما مختلفان بالاعراض. والظاهر أنه تتعاقب في جميع هذه الأطوار على مادة واحدة صور حسب تعاقب الاستعدادات إلى أن تنتهي إلى الصورة الإنسانية، ونحن نقول به إلى أن يقوم الدليل على خلافه فتدبر. { فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَـٰمَ } المعهودة { لَحْماً } أي جعلناه ساتراً لكل منها كاللباس، وذلك اللحم يحتمل أن يكون من لحم المضغة بأن لم تجعل كلها عظاماً بل بعضها ويبقى البعض فيمد على العظام حتى يسترها، ويحتمل أن يكون لحماً آخر خلقه الله تعالى على العظام من دم في الرحم. وجمع { ٱلعِظَامِ } دون غيرها مما في الأطوار لأنها متغايرة هيئة وصلابة بخلاف غيرها، ألا ترى عظم الساق وعظم الأصابع وأطراف الأضلاع، وعدة العظام مطلقاً على ما قيل مائتان وثمانية وأربعون عظماً وهي عدة رحم بالجمل الكبير، وجعل بعضهم هذه عدة أجزاء الإنسان والله تعالى أعلم. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبان والمفضل والحسن وقتادة وهٰرون والجعفي ويونس عن أبـي عمرو، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بإفراد { ٱلعِظَامِ } في الموضعين اكتفاء باسم الجنس الصادق على القليل والكثير مع عدم اللبس كما في قوله:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا
واختصاص مثل ذلك بالضرورة على ما نقل عن سيبويه لا يخلو عن نظر، وفي الإفراد هنا مشاكلة لما ذكر قبل في الأطوار كما ذكره ابن جني.