الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ }

ورجح على العموم بقيام القرينة عليه وهو قوله تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى } بناء على تفسير الذكر بالقرآن، وكذا قوله تعالى بعدكَذٰلِكَ أَتَتْكَ ءايَـٰتِنَا فَنَسِيتَهَا } [طه: 126] ولمختار العموم أن يقول: الذكر يقع على القرآن وعلى سائر الكتب الإلٰهية، وكذا الآيات تكون بمعنى الأدلة مطلقاً، وقد فسر الذكر أيضاً هنا بالهدى لأنه سبب ذكره تعالى وعبادته سبحانه، فأطلق المسبب وأريد سببه لوقوعه في المقابلة، وما في الخبر من باب التنصيص على حكم أشرف الأفراد المدلول عليه بالعموم اعتناء بشأنه. ثم إن تقييد { لاَّ يَضِلُّ } بقولنا في الدنياوَلاَ يَشْقَىٰ } [طه: 123] بقولنا في الآخرة هو الذي يقتضيه الخبر. وجوز بعضهم العكس أي فلا يضل طريق الجنة في الآخرة ولا يتعب في أمر المعيشة في الدنيا، وجعل الأول في مقابلة { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ } والثاني في مقابلة { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } ثم قال: وتقديم حال الآخرة على حال الدنيا في المهتدين لأن مطمح نظرهم أمر ءاخرتهم بخلاف خلافهم فإن نظرهم مقصور على دنياهم، ولا يخفى أن الذي نطقت به الآثار هو الأول، وذكر بعضهم أنه المتبادر، نعم ما ذكر لا يخلو عن حسن وإن قيل: فيه تكلف، وجوز الإمام كون الأمرين في الآخرة وكونهما في الدنيا، وذكر أن المراد على الأخير لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين لا مطلقاً فإن لحق المنعم بالهدى شقاء في الدنيا فبسبب آخر وذلك لا يضر اهـ، والمعول عليه ما سمعت، والمراد من الإعراض عن الذكر عدم الاتباع فكأنه قيل: ومن لم يتبع { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } أي ضيقة شديدة وهو مصدر ضنك وكذا ضناكة؛ ولذا يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع، وقد وصف به هنا المؤنث باعتبار الأصل. وقرأ الحسن { ضنكى } بألف التأنيث كسكرى وبالإمالة. وهذا التأنيث باعتبار تأويله بالوصف. وعن ابن عباس تفسيره بالشديد من كل وجه، وأنشد قول الشاعر:
/ والخيل قد لحقت بنا في مأزق   ضنك نواحيه شديد المقدم
والمتبادر أن تلك المعيشة له في الدنيا، وروي ذلك عن عطاء وابن جبير، ووجه ضيق معيشة الكافر المعرض في الدنيا أنه شديد الحرص على الدنيا متهالك على ازديادها خائف من انتقاصها غالب عليه الشح بها حيث لا غرض له سواها بخلاف المؤمن الطالب للآخرة، وقيل: الضنك مجاز عما لا خير فيه، ووصف معيشة الكافر بذلك لأنها وبال عليه وزيادة في عذابه يوم القيامة كما دلت عليه الآيات، وهو مأخوذ مما أخرجه ابن أبـي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: يقول كل مال أعطيته عبداً من عبادي قل أو كثر لا يتقيني فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة، وقيل: المراد من كونها ضنكاً أنها سبب للضنك يوم القيامة فيكون وصفها بالضنك للمبالغة كأنها نفس الضنك كما يقال في السلطان: الموت بين شفتيه يريدون بالموت ما يكون سبباً للموت كالأمر بالقتل ونحوه، وعن عكرمة ومالك بن دينار ما يشعر بذلك، وقال بعضهم: إن تلك المعيشة له في القبر بأن يعذب فيه.

السابقالتالي
2