الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }

صفة للمتقين قبل، فإن أريد بالتقوى أولى مراتبها فمخصصة أو ثانيتها فكاشفة أو ثالثتها فمادحة. وفي «شرح المفتاح الشريفي» إن حمل المتقي على معناه الشرعي ـ أعني الذي يفعل الواجبات ويترك السيآت ـ فإن كان المخاطب جاهلاً بذلك المعنى كان الوصف كاشفاً وإن كان عالماً كان مادحاً وإن حمل على ما يقرب من معناه اللغوي كان مخصصاً، واستظهر كون الموصول مفصولاً قصد الإخبار عنه بما بعده لا إثباته لما قبله وإن فهم ضمناً فهو وإن لم يجر عليه كالجاري وهذا كاف في الارتباط، والاستئناف إما نحوي أو بياني كأنه قيل ما بال المتقين خصوا بذلك الهدى، والوقف علىالْمُتَّقِينَ } [البقرة:2] تام على هذا الوجه حسن على الوجه الأول. والإيمان في اللغة التصديق أي إذعان حكم المخبر وقبوله وجعله صادقاً وهو إفعال من الأمن كأن حقيقة آمن به آمنه التكذيب والمخالفة ويتعدى باللام كما في قوله تعالى:أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ } [الشعراء: 111] وبالباء كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان أن تؤمن بالله» الحديث، قالوا: والأول باعتبار تضمينه معنى الإذعان والثاني باعتبار تضمينه معنى الاعتراف إشارة إلى أن التصديق لا يعتبر ما لم يقترن به الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق صار ذا أمن وهو فيه حقيقة عرفية أيضاً كما في «الأساس» ويفهم مجازيته ظاهر كلام «الكشاف» وأما في الشرع فهو التصديق بما علم مجيء النبـي صلى الله عليه وسلم به ضرورة تفصيلاً فيما علم تفصيلاً وإجمالاً فيما علم إجمالاً وهذا مذهب جمهور المحققين لكنهم اختلفوا في أن مناط الأحكام الأخروية مجرد هذا المعنى أم مع الإقرار؟ فذهب الأشعري وأتباعه إلى أن مجرد هذا المعنى كاف لأنه المقصود والإقرار إنما هو ليعلم وجوده فإنه أمر باطن ويجري عليه الأحكام فمن صدق بقلبه وترك الإقرار مع تمكنه منه كان مؤمناً شرعاً فيما بينه وبين الله تعالى ويكون مقره/ الجنة لكن ذكر ابن الهمام أن أهل هذا القول اتفقوا على أنه يلزم أن يعتقد أنه متى طلب منه الإقرار أتى به فإن طولب ولم يقر فهو كفر عناد، وذهب إمامنا أبو حنيفة رحمه الله وغالب من تبعه إلى أن الإقرار وما في حكمه كإشارة الأخرس لا بد منه فالمصدق المذكور لا يكون مؤمناً إيماناً يترتب عليه الأحكام الأخروية كالمصلي مع الرياء فإنه لا تنفعه صلاته ولعل هذا لأنه تعالى ذم المعاندين أكثر مما ذم الجاهلين المقصرين وللمانع أن يجعل الذم للإنكار اللساني ولا شك أنه علامة التكذيب أو للإنكار القلبـي الذي هو التكذيب، وحاصل ذلك منع حصول التصديق للمعاند فإنه ضد الإنكار وإنما الحاصل له المعرفة التي هي ضد النكارة والجهالة، وقد اتفقوا على أن تلك المعرفة خارجة عن التصديق اللغوي وهو المعتبر في الإيمان نعم اختلفوا في أنها هل هي داخلة في التصور أم في التصديق المنطقي فالعلامة الثاني على الأول وأنه يجوز أن تكون الصورة الحاصلة من النسبة التامة الخبرية تصوراً وأن التصديق المنطقي بعينه التصديق اللغوي ولذا فسره رئيسهم في الكتب الفارسية (بكر ويدن) وفي العربية بما يخالف التكذيب والإنكار وهذا بعينه المعنى اللغوي ويؤيده ما أورده السيد السند في «حاشية شرح التلخيص» أن المنطقي إنما يبين ما هو في العرف واللغة إلا أنه يرد أن المعنى المعبر عنه (بكر ويدن) أمر قطعي وقد نص عليه العلامة في «المقاصد» ولذا يكفي في باب الإيمان التصديق البالغ حد الجزم والإذعان مع أن التصديق المنطقي يعم الظني بالاتفاق فإنهم يقسمون العلم بالمعنى الأعم تقسيماً حاصراً إلى التصور والتصديق توسلاً به إلى بيان الحاجة إلى المنطق بجميع أجزائه التي منها القياس الجدلي المتألف من المشهورات والمسلمات ومنها القياس الخطابـي المتألف من المقبولات والمظنونات، والشعري المتألف من المخيلات فلو لم يكن التصديق المنطقي عاماً لم يثبت الاحتياج إلى هذه الأجزاء وهو ظاهر وصدر الشريعة على الأخير فإن الصورة الحاصلة من النسبة التامة الخبرية تصديق قطعاً فإن كان حاصلاً بالقصد والاختيار بحيث يستلزم الإذعان والقبول فهو تصديق لغوي وإن لم يكن كذلك كمن وقع بصره على شيء فعلم أنه جدار مثلاً فهو معرفة يقينية وليس بتصديق لغوي فالتصديق اللغوي عنده أخص من المنطقي، وذهب الكرامية إلى أن الإيمان شرعاً إقرار اللسان بالشهادتين لا غير، والخوارج والعلاف وعبد الجبار من المعتزلة إلى أن كل طاعة إيمان فرضاً كانت أو نفلاً، والجبائي وابنه وأكثر معتزلة البصرة إلى أنه الطاعات المفترضة دون النوافل منها، والقلانسي من أهل السنة والنجار من المعتزلة ـ وهو مذهب أكثر أهل الأثر ـ إلى أنه المعرفة بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد