الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ }

{ أَلَمْ تَرَ } هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقرير والتذكير لمن علم بما يأتي كالأحبار وأهل التواريخ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه، وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الباب بأن شبه حال من لم ير الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه وأنه ينبغي أن يتعجب منه ثم أجرى الكلام معه كما يجري مع من رأى قصداً إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب، والرؤية إما بمعنى الأبصار مجازاً عن النظر، وفائدة التجوز الحث على الاعتبار لأن النظر اختياري دون الإدراك الذي بعده وإما بمعنى الإدراك القلبـي متضمناً معنى الوصول والانتهاء ولهذا تعدت بإلى في قوله تعالى: { إِلَى ٱلَّذِينَ } كما قاله غير واحد، وقال الراغب: إن الفعل مما يتعدى بنفسه لكن لما استعير لمعنى ـ ألم تنظر ـ عدي تعديته بإلى وفائدة استفادته أن النظر قد يتعدى عن الرؤية فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة لها استعيرت له وقلما استعمل ذلك في غير التقرير فلا يقال رأيت إلى كذا انتهى. وقد يتعدى اللفظ على هذا المعنى بنفسه وقل من نبه عليه كقول امرىء القيس:
ـ ألم تر ـ بأني كلما جئت طارقا   وجدت بها طيباً ولم تتطيب
والمراد بالموصول أهل قرية يقال لها داوردان قرب واسط. { خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِم } فارين من الطاعون أو من الجهاد حيث دعوا إليه { وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } وكانوا فوق عشرة آلاف على ما استظهره الأكثر بناءاً على أنه لا يقال ـ عشرة ألوف ولا تسعة ألوف ـ وهكذا وإنما يقال آلاف، فقول عطاء الخراساني: إنهم كانوا ثلاثة آلاف، وابن عباس في إحدى الروايات عنه أنهم أربعة آلاف، ومقاتل والكلبـي إنهم ثمانية آلاف، وأبـي صالح إنهم تسعة آلاف، وأبـي رءوف إنهم عشرة آلاف لا يساعده هذا الاستعمال، والقائلون بالفوقية اختلفوا فقيل: كانوا بضعة وثلاثين ألفاً، وحكى ذلك عن السدي، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أربعون ألفاً، وقال عطاء بن أبـي رباح: إنهم سبعون ألفاً ولا أرى لهذا الخلاف ثمرة بعد القول بالكثرة وإلى ذلك يميل كلام الضحاك، وحكي عن ابن زيد أن المراد: خرجوا مؤتلفي القلوب ولم يخرجوا عن تباغض فجعله جمع/ آلف مثل قاعد وقعود وشاهد وشهود وهو خلاف الظاهر، وليس فيه كثير اعتبار إذ ورود الموت دفعة كما ينبىء عنه قوله تعالى: { فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ } على جمع عظيم أبلغ في الاعتبار، وأما وقوعه على قوم بينهم ألفة فهو كوقوعه على غيرهم، ومثل هذا القول بأن المراد ألفهم وحبهم لديارهم أو لحياتهم الدنيا، والمراد بقوله تعالى إما ظاهره وإما مجاز عن تعلق إرادته تعالى بموتهم دفعة، وقيل: هو تمثيل لإماتته تعالى إياهم ميتة نفس واحدة في أقرب وقت وأدناه وأسرع زمان وأوحاه بأمر [آمر] مطاع لمأمور مطيع، وقيل: ناداهم ملك بذلك، وعن السدي أن المنادي ملكان وإنما أسند إليه تعالى تخويفاً وتهويلاً.

السابقالتالي
2 3